قضايا وآراء

القديم يحتضر  والجديد لم يولد بعد

| عبد المنعم علي عيسى 

كان من الواضح- منذ وصول فلاديمير بوتين إلى سدة السلطة في الكريملين أواخر العام 1999م -وجود نزعة ذاتية لدى هذا الأخير نحو استعادة روسيا لأمجادها السابقة وبناء قوة دولية كبرى تغني تهديداتها عن خوض حروب في شتى بقاع الأرض، ارتبطت تلك النزعة بقدرة صاحبها على تجيير الإمكانات المتاحة وتحويلها إلى أرقام ووقائع إيذاناً بالإعلان عن الاستيقاظ الروسي الذي بدأت أولى إرهاصاته في آب 2008 الحرب الروسية (الجيورجية) وفيها استعادت موسكو جزءاً كبيراً من هيبتها العسكرية، على حين كانت آخر محطاته (حتى الآن) تتجلى في قيام هذه الأخيرة بضم شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي في آذار من العام 2004.
حصلت فيما بين التاريخين السابقين العديد من الانزياحات في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة التي استطاعت موسكو اجتذاب بعضها عبر منظمة شنغهاي للتعاون (تأسست 26/4/1996) على حين البعض الآخر قام بالانضمام تباعاً إلى تلك المنظمة كما فعلت أوزباكستان عام2001 لتتسع المروحة ويصل هواؤها إلى منغوليا والهند وباكستان حيث سيعلن هؤلاء عن انضمامهم أيضاً في العام 2005 بدأت موسكو تقطف ثمار تبلور مشروعها عبر التداعيات التي بدأ يشهدها محيط الاتحاد الروسي ظهر ذلك في أوكرانيا (شباط 2009- شباط 2010) عبر وصول القوى الموالية لموسكو إلى سدة السلطة في كييف وفي قرغيزستان أيضاً في نيسان 2010.
حدث الأمر عينه لتجد موسكو نفسها على أعتاب رياح «الربيع العربي» في منطقة الشرق الأوسط.
فرضت الإستراتيجية الروسية المتبعة على صانعيها التصلب في الأزمة السورية نظراً لحساسية الجغرافيا السورية التي كانت على الدوام مدخلاً للعديد من التحولات التي شهدتها المنطقة ناهيك عن وجود حالة تجانس ديموغرافية في الداخل الروسي تشبه إلى حد بعيد نظيرتها في بلدان المنطقة وقد كانت (ولا تزال) الخشية الروسية هي أن يعمل الغرب على تفكيك الاتحاد الروسي (وكذلك الصين) عبر اللعب على المكونات الإسلامية في إقليم الشيشان الروسي أو الإيغور الصيني، ولذا فقد كان الفيتو الروسي الصيني الأول 4/10/2011 (والفيتوات الأربعة التي تلته) يمثل خط دفاع روسياً أول عن روسيا كما أعلن سيرغي لافروف عن ذلك مرات عدة بوضوح لا لبس فيه.
في أتون الأزمة السورية سيعلن فلاديمير بوتين أن الأزمة السورية سوف يتمخض عنها نظام دولي جديد وفي هذا السياق يمكن فهم الاندفاعة الروسية القصوى في الأزمة السورية التي كادت -مؤخراً- تصطدم بالقوة العظمى الثانية على الأرض السورية ولربما كان إعلان وزارة الدفاع الروسية في 7/10/2016 بأن صواريخ إس إس 300 سوف تقوم بإسقاط الطائرات الأميركية المغيرة على مواقع الجيش السوري تحت أي ظرف كان، يمثل سابقة لم تكن مشهودة منذ زمن الحرب الباردة (1949-1989) وما يقلق الأميركان هو أن الروس -وفي خلال استعادتهم لدورهم- ذهبوا سريعاً نحو مد أذرعهم إلى مناطق هي من المحرمات.
لم تختر روسيا إطار «التغريب أي استحضار النموذج الغربي» في مسار نهوضها الرامي إلى صعودها إلى مرتبة الندية للولايات المتحدة على الرغم من أن الاتحاد السوفييتي نفسه كان قد اتخذ من ذلك النموذج (الغربي) مساراً له ولطالما شكلت الثورة البلشفية تشرين الأول 1917 ردة منهجية على القيصرية التي كانت تريد بناء إمبراطوريتها بعيداً عن الغرب ونماذجه ولربما يمثل هذا الأمر الأخير تفسيراً لمدى التناقض الحاصل أيضاً فإن تتبع موسكو طريق التغريب فهذا يعني اختيارها لطريق التبعية للولايات المتحدة لأنها رائدة هذا الأمر وألا تفعل فهذا يعني استحضار نموذج آخر منافس لذاك المسار.
يعيش النظام العالمي اليوم مخاضاً عسيراً فالقديم يحتضر والجديد لا يستطيع أن يولد بعد والقول بانتهاء مرحلة الأحادية القطبية هو أمر لا يزال أمامه المزيد من الأحداث ولربما المزيد من إراقة الدماء اللازمة لرسم حدود النظام الدولي الجديد، ولذا فإن من الصعب أيضاً القول بوجود نظام دولي متعدد الأقطاب فذاك أمر دونه أيضاً العديد من المطبات التي يجب أن توصل بأولئك الأقطاب إلى يالطا ثانية يتم من خلالها تقاسم مناطق النفوذ العالمية بينهم على الرغم من أن الوصول إلى تلك المرحلة هو أمر إيجابي للدول الصغيرة لأنه يخفف من احتدام أزماتها أو إراقة الدماء فيها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن