ثقافة وفن

فنّ السّخرية في أدب الجاحظ…في أبعاد السّخرية وجمالها زمن العباسيين

عامر فؤاد عامر : 

صدر الكتاب الثامن في سلسلة «قطوف» الثقافيّة الصادرة عن وزارة الثقافة، الهيئة العامة السوريّة للكتاب، وقد جاء الاختيار هذه المرّة في عنوان «فنّ السّخرية في أدب الجاحظ»، من اختيار وتقديم «أحمد عكيدي»، وقد حمل الكتاب الكثير من عناوين الفصول التي عرّفت بالجاحظ ومسيرته، وعن موضوع السخرية في أدبه، وبعض الفصول التي تحدثت عن عصر الجاحظ وبيئته وأثرهما، وعن حياته وثقافته، وعوامل نبوغه، وموضوعات السخرية التي كتب الجاحظ فيها، وعن تلاعبه في الألفاظ، وأسلوب الهزل الذي استخدمه في الكتابة، وغيرها من الفصول التي توضح ما عُني به الجاحظ.

بين النقد والإضحاك

ومما جاء في مقدمة الكاتب «أحمد عكيدي»: «يُعدّ فنّ السّخرية في الأدب من الموضوعات الطريفة، التي يروّح بها الأديب عن نفسه، وعن مجتمعه. وغرضه من ذلك هو النقد أولاً، والإضحاك ثانياً. والساخر يكون متعالياً بنفسه، ولا يأبه بمن حوله، فقد يسخر من المجتمع أو من أحد أفراده…». وفي تعريف الجاحظ ذكر الكتاب ما يلي: «عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (1163 هـ – 780 م/200 هـ- 869م). كبير أئمة الأدب، ورئيس الفرقة الجاحظيّة من المعتزلة، مولده ووفاته في البصرة، فُلج في آخر عمره، وكان مشوّه الخلقة، ومات والكتاب على صدره، قتلته مجلدات من الكتب وقعت عليه. له تصانيف كثيرة، منها «الحيوان»، و«البيان والتبيين»، و«سحر البيان»، و«التاج»، ويسمى «أخلاق الملوك»، و«البخلاء»، و«المحاسن والأضداد»، و«التبصّر بالتجارة»… إلخ.

من موضوعات السّخرية
قدّم الكتاب في جزءٍ وافٍ منه «موضوعات السّخرية في أدب الجاحظ، وهو قسمٌ احتوى عدّة فصول بدأت بالعيوب الجسميّة والمظهريّة، التي روى فيها الجاحظ عن تلك العيوب التي أكثر ما تبدو في الوجه، فمن الممكن أن تكون في حجم أجزاء الوجه، كضخامة الأنف، أو اتساع الفم، أو صغر العيون، أو شكل الأسنان أو الشفاه، بما لا يعطي تناسقاً حقيقيّاً للمنظر العام للوجه من قبل الناظر إليه من الناس، ومما جاء في قول الجاحظ، وما استشهد به الكتاب أيضاً: «ما يبدو مشتغلاً بالبكاء من دون انقطاع، منها ما يبدو ضاحكاً، أو صافراً باستمرار، ومنها ما يبدو كأنّه ينفخ في بوقٍ خيالي إلى الأبد». وفي مقطعٍ آخر وعلى نفس السياق لدينا الشاهد التالي: «كما روى أن الخليفة المتوكل، أيضاً اشترى له- للجاحظ نفسه- جارية تركيّة جميلة، رجاء أن يُرزق منها ولداً يكون بحسنها وذكائه، فولدت له ولداً جاء بجهلها وقبحه».

الدقّة في التوصيف
وفي قسم فريد لافت للانتباه أيضاً جاءت روايات ونوادر جداً مهمة، وهو في غرابة الطباع والأخلاق، وفي البخل يروي حكمته المنطبقة في كلّ زمانٍ ومكان، والتي يقول فيها «…ومعلومٌ أن البخل والنظر في الطفيف مقرون بالتجارة، والتجار هم أصحاب التربيح والتكسب والتدقيق». وفي النفاق هناك قسمٌ، وفي الجحود ونكران الجميل، وفي التطفيل؛ والتي عرّفها الجاحظ بأنها جماعة ظهرت أيام العباسيين، ومن صفاتها أنها تحبّ طعام الغير، وتجدها في الولائم حاضرة دائماً، ودون دعوة أو وجوب لحضورها ووجودها، وقد بقي الجاحظ يصف وينعت الطفيليين إلى أن صار مصطلح «طفيلي الأعراس» دارجاً في التعامل والتسمية بين الناس. وهناك عدّة أقسام تابعة لموضوعات السّخرية، إضافة لما ذكرنا، ومنها في البلادة والإهمال، وفي الكذب والمبالغة والادعاء، وفي الخوف والجبن، وفي القصور العقلي؛ كالحمق، والتناقض، والخرافة… وغيرها، وفي التحايل والخداع، وفي الهزل على طريقة أسلوب الحكيم، وفي التلاعب في الألفاظ، وهو قسمٌ لافت للانتباه في مقطعٍ منه، فقد ذكر الجاحظ حين أتى منزل صديقٍ له: «…فطرقت الباب، فخرجت إليّ جارية سنديّة، فقلت لها: قولي لسيدك الجاحظ بالباب، فقالت: أقول: الجاحد بالباب؟! قلت: لا، قولي الحدقي بالباب. فقالت: أقول: الحلقي بالباب؟. فقلت لها: لا تقولي شيئاً! وانصرفت..».
إخفاق

ولكن ما يؤخذ في اختيار الكاتب «أحمد عكيدي» هو اختياره لأمثلة جاءت بوصف يحتاج شرحاً حتى يكون أكثر قرباً من القارئ في يومنا هذا، أو على الأقل شرحاً لمفردات لم تعدّ تستخدم في لغتنا الدارجة حالياً، فهناك الكم الكبير منها، ورد في سياق الأمثلة، والتي تقطع المعنى الذي يسعى له القارئ إن لم يستنجد بمعجمٍ يشرح له هذه الكلمات غير المألوفة، بل هي صعبة المعرفة حتى على المختصين في اللغة العربيّة أنفسهم.

نوادر
ذكر الكتاب أيضاً قسماً حمل عنوان «من نوادر الجاحظ سبق ذكرُ بعضها» وفي طرفة جاء اسمها «مثل هذا» يقول الجاحظ: «كان الجاحظ واقفاً أمام بيته، فمرت قربه امرأة حسناء، فابتسمت له، وقالت: لي إليك بحاجة. فقال الجاحظ: وما حاجتك؟ قالت: أريدك أن تذهب معي. قال: إلى أين؟ قالت: اتبعني دون سؤال. فتبعها الجاحظ إلى أن وصلا إلى دكان صائغ. وهناك قالت المرأة للصائغ: مثل هذا! ثم انصرفت. عندما سأل الجاحظ الصائغ عن معنى ما قالته المرأة، فقال له: لا مؤاخذة يا سيّدي! لقد أتتني المرأة بخاتم، وطلبت منّي أن أنقش عليه صورة شيطان، فقلت لها: ما رأيت شيطاناً في حياتي. فأتت بك إلى هنا لظنّها أنّك تشبهه».

في الأصل
في مئتين وأربع صفحات؛ يختم الكتاب بفصلٍ أخير، يذكر فيه سخريات ومزاج الأدباء والأعراب والمتندرين حتى عصر الجاحظ، مع كثير من الأمثلة التي تشير إلى ميل العرب في طبيعتهم للظرافة وخفة الروح والسّخرية والتهكم والمزاح والفكاهة، بقصد الضحك والانشراح والسرور، فجاء هذا القسم الأخير بالمزيد من الطرائف والدعابات، المستقاة من واقعهم المعاش، وما حاجتنا إليها في عصرنا هذا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن