ثقافة وفن

سيِّد درويش عبقري مصر ونصيرَ البسطاء «1892 – 1923م»…غنَّى للناسِ وما زالَ حاضراً بقوةٍ في ذاكرةِ محبيهِ وقلوبِهم

نضال حيدر : 

كثيرةٌ هي الألقابُ التي أُطلِقَت عليهِ: «أبو الموسيقى المصريَّة، فنانُ الشعب، خـــالِدُ الذِكر، الفنانُ الخالِد، الشيخ سيِّد، مؤسسُ الموسيقى المصريةِ الحديثة، الأستاذُ الأكـبر، الموسيقارُ الأوَّل، الموسيقارُ الخالد، نابغةُ الموسيقى، عبقريُّ الموسيقى».
إنَّهُ المبدِّعُ العربيُّ «السيِّد درويش البحر» المولود في «كوم الدكة» بالإسكندرية في 17/آذار/1892م والذي يصِفُهُ البعضُ بأنَّهُ «مُجدِّدُ الموسيقى وباعِثُ النهضةِ الموسيقيةِ في مصر والوطنِ العربي» والذي كانَ عبرَ سنيِّ حياتهِ؛ الوفيَّ للناسِ، فقد سكنَ أثناءَ حياتهِ وبعدَ رحيلهِ قلوبَهم العامرةَ بحبِّهِ جيلاً إثرَ جيل، فلم يكُن إبداعُهُ رهينَ زمانٍ ومكانٍ محدَّدين، لأنّهُ تفلّتَ من هذا الأسرِ، فجاءَ فنُّهُ الأصيلُ المنسوجُ بأسلوبٍ فريدٍ حيّاً متجدِّدَاً.

أغانيه.. التعبير الصادق
عن الناس
غنَّى سيِّد درويش لبسطاءِ الناسِ وفقرائِهم، فدخلت أغانيه النابعة من قلبهِ إلى قلوبِهم، لأنَّها كانت التعبيرَ الصادقَ عن تفاصيلِ حياتهمِ اليوميةِ بمجملِ آلامِها وآمالِها وتوقِها للخلاص، عبرَ الكلمةِ البسيطةِ المُعبِّرَةِ واللحنِ الجميلِ الممتلئِ رِقَّةً وحنيناً، فكانَ بأغانيهِ بحقٍّ كما يحلو للكثيرينَ وصفه «أسطورةً عابرةً للأجيال».
سيِّد درويش: العبقري.. والتاريخ المتجدِّد
عبرَ أغانيهِ وألحانهِ التي نذرَهَا للناسِ، الذينَ ما انفكوا يردِّدونَ: «طلعت يا محلا نورها» وغيرها مِن سِيَرِهِمْ الذاتيةِ والعامّة، يعودُ العبقريُّ من أعماقِ الماضي صوتاً وصورةً وموقِفاً، ليتبدَّى كلَّ يومٍ صوتاً صادِقاً وشفيفاً.
بدايةُ مشوارهِ كانت معَ إنشادهِ ألحانَ سلامة حجازي وحسن الأزهري معَ مجموعةٍ من أصدقائهِ حتى العام 1905م موعد التحاقهِ بالمعهدِ الديني بالإسكندرية، لينتقلَ بعدها للعملِ في الغناءِ في المقاهي، هذا العملُ الذي لم يُقدَّر لهُ الاستمرار، ليضطرَ سيِّد درويش للعملِ كعاملِ بناء، وخلالَ العملِ كانَ يرفعُ صوتهُ بالغناءِ الذي لفتَ أنظارَ من حوله، وهنا كانَ لا بدَّ للمصادفةِ مِن دور، بوجودِ الأخوين أمين وسليم عطا الله، وهما من أشهرِ المشتغلينَ بالفنِّ يومذاك، في مقهى قريب من الموقعِ الذي كانَ يعملُ بهِ، فقد لفتَ انتباههما بصوتهِ المميز، ليصلا معهُ إلى اتفاقٍ يقضي بمرافقتهِ لهُما في رحلةٍ فنيَّةٍ إلى الشام نهايةَ عامِ 1908م وهناك أقامَ لعشرةِ شهورٍ؛ تعرَّفَ خلالها إلى عثمان الموصلي ليحفظَ عنهُ التواشيح، وبعدَ عودتهِ من الشامِ عام 1909م ألحقه الأخوان عطا الله بفرقتهما.

أوَّلُ أدوارهِ التي لحَّنها
سافرَ سيِّد درويش إلى الشام للمرةِ الثانية عامَ 1912م ليعيدَ وصلَ ما انقطعَ مِن صِلاتٍ فنيّةٍ بينهُ وبين موسيقييها، وليكتسبَ من أساتذتِها المزيدَ من صنوفِ المعرفةِ، وهناكَ أتقنَ العزفَ على العود؛ وكتابةَ النوتةِ الموسيقية، ليلحنَ أولَ أدوارهِ «يا فؤادي ليه بتعشق» وفي عام 1917م عادَ إلى القاهرة، ليسطعَ نجمُهُ ويزداد إنتاجهُ، حتى قيلَ إن باستطاعتهِ تلحينَ خمسةِ أعمالٍ في شهرٍ واحد، وقد استمرَ ذلكَ حتى قيامِ ثورةِ 1919م بقيادةِ سعد زغلول ليصدحَ بغنائهِ الشهير: «قوم يا مصري».
وبعودتهِ إلى القاهرة، اختطَّ سيِّد درويش لنفسهِ مساراً جديداً، ليخرجَ بمعظمِ أدوارهِ وموشَّحَاتِهِ الخالدة، حيثُ أبدعَ عشرةَ أدوارِ منها: «يللي قوامَك يعجبني، في شرعِ مين، الحبيب للهجرِ مايل، ضيَّعتِ مستقبل حياتي، أنا عشقت، أنا هويت، عشقت حسنك، يوم تركت الحب» كما قدم اثني عشر موشحاً أهمها: «ترى بعد البعاد، يا صاحبَ السحرِ الحلال، يا حمامَ الأيك، أثِر يا عذيبَ المرشف، يا شادي الألحان، العذارى المائِسات، يا غصينَ البانِ حرتُ في أمري، حبي دعاني للوصالِ» كما أبدعَ الكثيرَ من الطقاطيقِ والأهازيجِ والأناشيدِ التي اشتُهِرَت إلى حدٍّ كبيرٍ عربياً.

مسؤوليات أكبر من طاقتهِ
لم ينشأ سيِّد درويش في أسرةٍ فنيّة، ولم يَجِد مَن يُشجِعهُ، بل على العكس، فقد جُوبِهَ بالعَنَتِ والتعنيفِ والرفضِ، وحملَ في سنٍّ مبكِّرةٍ مسؤولياتٍ أكبرَ مِن طاقتهِ، إذ توفي والدهُ وهو في السابعةِ من عمره، ودفعتهُ أسرتهُ للزواجِ المبكرِ في السادسةِ عشرة من عمرهِ، واضطرتهُ تلكَ الظروفُ إلى الانخراطِ في العملِ مبكراً دونَ أن يتسنى لهُ إكمالَ تعليمه.
وعبرَ سنيِّ حياتهِ القصيرة، أبدعَ سيِّد درويش العشرات من الأدوار وأربعين موشحاً ومئة طقطوقة وثلاثين روايةً مسرحيةً وأوبريت، كما لحن نشيد «بني مصر» الذي نظمهُ مصطفى صادق الرافعي، إضافةً إلى نشيد «أنا المصري كريمُ العنصرين بنيتُ المجد بين الأهرامين» ولم يكُن أثرهُ في مجالي التمثيلِ والأوبرا العربية بأقلَّ من أثرهِ في المجالاتِ الأخرى، وهو أضافَ إلى إبداعهِ رصيداً جديداً، حيثُ لحَّنَ »أوبرا شهرزاد» الذي ظهرَ للمرةِ الأولى أواخرَ عام 1920م وأوائلَ العامِ 1921م إشارةً لبدءِ تغييرٍ كبيرٍ ونوعيٍّ جديدٍ في عالمِ الموسيقى العربية، كما لحَّنَ أوبرا «العِشرَة الطيّبة» التي ألَّفها محمد تيمور ونَظَمَ أغانيها بديع خيري، ولحَّنَ أوبرا «الباروكة» المعرَّبة عن أوبرا «لاما سكوت» لـ«أروان» كما لحَّنَ أيضاً الفصلَ الأولَ من أوبرا «كليوباترا وأنطونيو» التي اقتبسها للمسرحِ العربي سليم نخلة ويونس القاضي.

أخرجَ الموسيقى المصرية
إلى العالمِ الرحب
كانَ الطربُ هدفَ الموسيقى المصريةِ الأساسي قبلَ سيِّد درويش، وهو استفادَ من هذا الفنِّ المهمِّ في الجهادِ الوطنيِّ والإصلاحِ الاجتماعي على حدٍّ سواء، إضافةً إلى ناحيةِ التطريب، وقد سعى إلى إخراجِ الموسيقى المصريةِ من حدودِها المحليَّةِ إلى عالمِ الإنسانيةِ الرحبِ، واللافتُ هنا هو أن طموحاتهِ لم تكُن مسرحيَّةً أو ماديَّةً، بل كانت موسيقيَّةً بالدرجةِ الأولى، فهو كانَ يسعى إلى موسيقى أفضل، غيرَ أنَّهُ اصطدمَ بإداراتِ الفرقِ المسرحيةِ، فعمِلَ على تأسيسِ فرقتهِ الخاصة عامَ 1920م.
ويكفي سيِّد درويش فخراً قولُ الموسيقيين فى مصر، كبارهم وصغارهم: «كلّنا خرجنا من عباءة سيد درويش» فهو كانَ المجدِّدَ الأوَّلَ في العصرِ الحديث، والتطور «الكمّي والكيفي» الذى أحدثهُ كانَ كفيلاً بمدِّ من جاؤوا من بعدهِ منَ الفنانين بمدَدٍ لم ينفد بعد، وقد سارَ على نهجهِ كبارُ الملحنين الذينَ لم تقتصر ألحانهم على مصر، بل تجاوزت الحدودَ لتصلَ إلى معظمِ الأقطارِ العربية، وهم: «محمد القصبجى، زكريا أحمد، محمد عبد الوهاب، ورياض السنباطي» وقد أحدثت هذهِ الألحانُ تغييراً كبيراً في الذوقِ العربيِّ الموسيقي، وأسهمت في إغناءِ الحركةِ الثقافية.

عمره الفني ست سنوات!!…
تتجلى أهمُّ مظاهرِ عبقريةِ سيِّد درويش؛ في أنَّ عُمرَهُ الفني لم يتجاوز السنواتِ الست، وهو الذي توفي عن 31 عاماً، لكنَّهُ خلالَ هذهِ المساحةِ الزمنيةِ القصيرةِ؛ تمكَّنَ من إحداثِ تغييرٍ هائلٍ في الموسيقى الشرقية، كما استطاعَ التعبيرَ باللحنِ عن الكلماتِ والمواقفِ الدراميةِ لأولِ مرةٍ في تاريخِ الموسيقى العربية، وتبدَّى التعبيرُ الموسيقيُّ عندهُ في اختيارِ الموضوعِ والكلماتِ، ومن ثمَّ التعبيرُ باللحنِ واختيارِ النغماتِ ذاتِ الجذورِ الشعبيةِ المصرية، وصياغةِ الجملِ اللحنيةِ في أبسط صورة، وكذلكَ صياغةُ الألحانِ في تراكيبَ حديثةٍ متطوِّرةٍ وإيقاعاتٍ مملوءة بالحيوية.

«خادمُ الموسيقى سيِّد درويش»
عام 1921م كتبَ سيِّد درويش للصحافةِ مقالاتٍ موسيقيَّةً، سعى من خلالها إلى توعيةِ الجمهورِ والتثقيفِ الموسيقي العام، وكانَ يختمُ مقالاتهِ بتوقيع «خادمُ الموسيقى سيِّد درويش» ثمَّ قررَ أن ينشرَ كتاباً يضمُّ ألحانه، واتفقت معهُ إحدى الصحف على نشرِ الكتاب في حلقات.
وفي العام 1923م استعدَ سيِّد درويش للسفرِ إلى إيطاليا، للاستزادةِ منَ العلومِ الموسيقية، غير أنَّ القدرَ لم يمهله، ووافتهُ المنيَّةُ في الإسكندرية مسقط رأسه، والتي ذهبَ إليها ذاتَ فجرٍ ليكونَ في استقبالِ الزعيم سعد زغلول العائد من المنفى، وبينما كانَ الشعبُ في فرحةٍ غامرةٍ بعودةِ الزعيم، كانت أسرةُ سيِّد درويش تبكيهِ في هدوءٍ حزين، لأنَّ أحداً لم ينتبه إلى رحيلِ سيِّد درويش الذي توفي في 10 أيلول 1923م.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن