ثقافة وفن

مرضى حقيقيون

| د. اسكندر لوقا 

من الأمراض الشائعة في يومنا الحالي، لا في عصرنا الحالي فقط، ما يسميه علماء النفس والاجتماع مرض التضخم، بمعنى تضخيم الذات بلا مبرر سوى في نظر صاحب المرض.
حين يصاب المرء بهذا المرض عادة، وبفعل إرادي من طرفه، يكون كمن سمح لعدوه بمهاجمته في عقر داره، ومن المؤسف أن بات هذا المرض اليوم خصوصاً، انعكاساً لسلوك التعالي والفوقية عند البعض من الناس وعن سابق تصور وتصميم وأيضاً بذريعة تحدي الآخر.
وللذات المضخمة بفعل إرادي، ظواهر مرضية شتى، منها- على سبيل المثال- شعور الفنان بأنه البداية والنهاية، كما شعور الكاتب والعالم حتى صاحب الحرفة بأن لا أحد يعلوهم مهما كان موقعه في بيئته على نحو خاص، ومن هنا، كانت الدعوة تلو الدعوة، كي يستيقظ العقل ويتنبه لاكتشاف الوجه الآخر لهذا المرض، إلى نقيضه في النفس البشرية، أعني به التواضع، ذلك لأن هذا الوجه هو الوجه الإنساني الحقيقي الذي يمثل الإنسان- الإنسان، ولهذا الاعتبار نجد أن أغلبية الناس ينحازون، عفوياً، لجهة من هم أكثر تواضعاً من غيرهم، ويزدادون قيمة في عيونهم كلما ازدادوا تواضعاً.
في الأيام التي يواجه فيه الوطن، أي وطن كان، محنة طارئة، يحلو للناس أن يتبادلوا الرأي عما يجري حولهم أو في بيئتهم خصوصاً، بمنطق موضوعي يقرب المستمع من حقيقة ما يجري أو ما المقصود منه، وذكر خلفياته، وسوى ذلك من أسباب المحنة. البعض يعتقد أنه الأكثر تفهماً للحدث من سواه، ويبدأ بالكلام كأنه العارف الأوحد بأسباب هذه المحنة أو تلك، وقلما يقنع أحداً ممن يعلم أن السبب فيما حدث ليس قريب المنال من جانب الأفراد لا على التعيين، وغالباً ما يسقط المدعي بالمعرفة التي قد تكون بعيدة جداً عن تقديراته، ومع سقوط المدعي تسقط مقولة الفوقية لا التفوق في تفهم ما حدث ويحدث.
في أيامنا هذه، ظاهرة الادعاء غدت مرضاً حقيقياً عند البعض ممن يدعون المعرفة وهم أبعد ما يكونون عنها، فهل ثمة من دواء لهذا الداء غير البحث عن سبب ما يحدث سوى التواضع ومعرفة حدود المعرفة؟
يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844- 1900): إن الدودة تتقلص عندما ندوسها، وبذلك نراها تقلل من فرص الدوس عليها من جديد، بلغة الأخلاق، هذا هو التواضع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن