قضايا وآراء

إدارة ترامب والخيارات المتاحة…

| د. أسامه سمّاق

هل توفر الإدارة الجديدة للبيت الأبيض انعطافاً في العلاقات الأميركية الروسية؟
منذ فوزه في الانتخابات الأخيرة أثار دونالد ترامب عاصفة كبيرة من ردود الفعل، لدرجة وصف هذا الفوز بالتسونامي من بعض المراقبين السياسيين الأميركيين.
بدأ المناخ السياسي العاصف حول الرئيس الأميركي الجديد بالانحسار مع قرب تتويجه وانتقاله الرسمي إلى البيت الأبيض لقيادة الولايات المتحدة الأميركية لا بل ما يسمى العالم الحر لأربع سنوات قادمة!.
اتصفت الحملة المثارة على ترامب بالعدائية أثناء المعركة الانتخابية التي وصلت إلى درجة الإهانة الشخصية من معارضيه ومن معظم وسائط الإعلام الأميركية والغربية، التي انحازت بشكلٍ فاضح لمصلحة منافسته كلينتون، كما اتصفت هذه الحملة بعيد إعلان فوزه بالذهول والصدمة، ويمكن أن نقول بالهلع من حلفاء أميركا الأوروبيين؟ ما يقتضي التساؤل عن أسباب هذه الحالة الفريدة لتاريخٍ طويل من الانتخابات الأميركية؟
وللإجابة عن ذلك لا بد من التوقف عند عناوين البرنامج الانتخابي للمرشح دونالد ترامب الذي طرحه في حملته الانتخابية.
نظرة سريعة على هذا البرنامج توضح أن ترامب خاض معركته الانتخابية بقلب الطاولة السياسية والاقتصادية التي كانت قد أسست من الإدارات السابقة من بوش إلى أوباما، بدءاً بالوضع الاقتصادي الداخلي وقضايا الهجرة وشراكات الولايات المتحدة مع التجمعات الاقتصادية الدولية ومناطق التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي وغيره، إلى إعلان الرئيس الجديد أنه عازمٌ على وضع أسسٍ جديدة للحلف الأطلسي وضرورة زيادة إنفاق الأوروبيين على شؤون الدفاع.. وعدم تعاطفه مع دول النفط كالسعودية ودول الخليج، وضرورة تطبيق معادلة «الحماية مقابل النفط والمال»… وأخيراً وليس آخراً نظرته الجديدة المختلفة كلياً للأزمتين السورية والأوكرانية!
كان واضحاً تربع العلاقة مع روسيا في المقدمة كأولوية لكلا المرشحين الجمهوري والديمقراطي… فإذا استثنينا من حديثنا هذا، الموقف الكلاسيكي الذي كررته هيلاري كلينتون تجاه العلاقة مع روسيا والذي لم يأتِ بجديد، بل كان عرضاً مكرراً لفيلمٍ قديم سئم الجميع من مشاهدته خلال حكم الإدارات الأميركية المتعاقبة على البيت الأبيض، يطالعنا الموقف المثير والفريد من نوعه لزعيم البيت الأبيض الجديد حول العلاقة مع روسيا. وهذا موضوع بحثنا في هذا المقال.
شهدت العلاقات الروسية الأميركية في العقود الثلاثة الماضية محطات تاريخية بدأت بالغزل في أواخر العصر السوفييتي (رونالد ريغان وجورج بوش الأب) وبالتحديد أثناء حكم الرئيس الأول والأخير للاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف 1985-1991(حيث لم يكن هناك منصب رئيس دولة قبل غورباتشوف) الذي أدى إلى انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه عام 1991 وإعلان روسيا الاتحادية كوريث شرعيٍ وقانوني للدولة السوفييتية البائدة.
المحطة الثانية: بدأت باستلام بوريس يلتسين السلطة كأول رئيس للدولة الروسية الجديدة عام 1991 التي اتسمت بارتهان القرار السياسي الروسي للولايات المتحدة (فترة بوش الأب وبيل كلينتون) وتغلغل أجهزة المخابرات الأميركية وعملائها من حيتان المال «أوليغارش» الروسي الجدد إلى دائرة القرار الاقتصادي والسياسي والعسكري وبالتداعي سيطرتهم تقريباً على مؤسسات الدولة.
المحطة الثالثة: انتخاب فلاديمير پوتين رئيساً لروسيا الاتحادية 26 آذار 2000 ولغاية عام 2008 (لفترتين متتاليتين)، اتسمت هذه الفترة بانصراف الزعيم الروسي الجديد إلى ترتيب البيت الداخلي بعد فترة يلتسين وخروج البلاد منهكة من حروب القوقاز، بعد محاولة انفصال جمهورية الشيشان عن الدولة الروسية. وبدأت مرحلة البناء والتقاط الأنفاس حيث يمكن اعتبارها بثقة مرحلة تأسيس روسيا الحديثة، غابت خلالها روسيا عن المسرح الدولي وتربعت الولايات المتحدة بشكل مريح على عرش العالم وخاصة بعد احتلالها لأفغانستان والعراق وتهديدها لسورية وأصبح العالم محكوماً بعلاقته مع أميركا بمعادلة من ليس مع الولايات المتحدة فهو بالضرورة عدوها (من ليس معنا فهو عدونا- إدارة جورج بوش الابن).
المحطة الرابعة: رئاسة ديمتري مدفيديف 2008-2012 وباراك أوباما رئيساً لأميركا، تولى پوتين في تلك المرحلة رئاسة الحكومة الروسية ومع ذلك بقي الرجل الأقوى في الإدارة الروسية.. من أهم خصائص تلك الفترة ارتفاع صوت المعارضة الروسية للهيمنة الأميركية وتجلى واضحاً في حرب أوسيتيا الجنوبية بعد الغزو الجورجي لهذه الجمهورية هذا الغزو الذي اعتمد على تأييد الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، كان الرد الروسي سريعاً وحاسماً وكاد يؤدي إلى فقدان جورجيا لوجودها كدولة، هذا إضافة إلى منع روسيا انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى الحلف الأطلسي. واتخاذها موقفاً ناقداً لغزو الغرب لليبيا حتى أن رئيس الحكومة حينذاك پوتين وصفه بالغزو الصليبي.
المحطة الخامسة والأهم 2012 ولغاية اليوم: رئاسة پوتين الثالثة وأوباما في البيت الأبيض. خيم على هذه الفترة الاضطرابات المتتابعة في المنطقة العربية التي أحدثتها موجات ما سمي في الغرب «الربيع العربي» الذي أفرز حالة من الفوضى الشاملة أدت إلى صراعٍ دولي على النفوذ والمصالح في أكثر من بلد عربي تحت راية محاربة الإرهاب الذي تجاوز الجغرافيا الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط ليطرق أبواب المدن الكبرى في كلٍ من أوروبا وأميركا.
احتدم الصراع بين القوتين الأعظم وخاصةً على الساحة السورية ووصل التوتر بينهما إلى حدِ التبشير بحربٍ عالمية ثالثة!.
تدهور العلاقات الأميركية الروسية أدى إلى تراجع التعاون الاقتصادي بين روسيا والغرب نتيجة العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا والعقوبات المضادة الروسية ما فاقم العلاقات المالية والاقتصادية الدولية.
في خضم هذه الوقائع يعلن الرئيس الأميركي الجديد أنه بصدد التنسيق مع روسيا لحل الأزمات الدولية في كلٍ من أوكرانيا وسورية مروراً بالمشكلات العالقة بين الطرفين فيما يتعلق بالدرع الصاروخية ومشكلة العقوبات المتبادلة وصولاً إلى قضية سنودين.
وبالعودة إلى بداية المقال فإن الكثير من المحللين يناصرون مقولة إن الولايات المتحدة دولة مؤسسات ولا يمكن لرئيس جديد أن يغير الإيقاع الكلاسيكي للإستراتيجيات الأميركية في التعامل مع القضايا الجيوسياسية في العالم، ومن ثم فإن معظم وعود ترامب في حملته الانتخابية للاستهلاك الدعائي وهي غير قابلة للتحقيق.
لست من أنصار هذه المقولة، بل أكثر من ذلك وبتحليل موضوعي أرى أن ترامب سيفاجئ العالم بسياسته الجديدة كما فاجأه بفوزه في الانتخابات الرئاسية رغم التحليلات واستطلاعات الرأي الكثيفة التي توقعت عكس ذلك، ورغم استنفار أكبر ماكينة إعلامية في العالم ضده، يعزز هذا الرأي مجموعة من المعطيات:
– قلق حلفاء أميركا الأوروبيين من السياسات المتوقعة للقادم الجديد إلى البيت الأبيض، وخاصةً احتمال تقاربه مع موسكو.
– حالة الارتباك التي تعيشها قيادة حلف الأطلسي بعد إعلان نتائج الانتخابات الأميركية.
– انتشار المزاج اليميني في الغرب عموماً: نتائج الاستفتاء في بريطانيا لمصلحة خروجها من الاتحاد الأوروبي.
– مؤشرات عصر جديد في الغرب قد يفضي في أوروبا إلى انبعاث الأحزاب القومية وسيطرتها على المشهد السياسي.
– بحث اليابان عن تشكيل حلفٍ جديد مع تايوان لملء الفراغ الأميركي المحتمل، بقصد كبح طموحات الصين الصاعدة.
– عدم ارتياح الصين من احتمال نشوء خلافات كبيرة مع الإدارة الجديدة في سياق التبادل التجاري بين البلدين.
– الارتياح الواضح للقيادة الروسية عقب إعلان فوز ترامب.
– زيادة النشاط العسكري الروسي في سورية بعد الاتصال الهاتفي الذي أجراه پوتين مع ترامب.
استناداً إلى ما تقدم وبالعودة إلى التاريخ الحديث فإن سياسات الدول تتغير مع تغير دائرة القرار السياسي فيها، حدث ذلك في فرنسا وفي ألمانيا، في بريطانيا وفي روسيا.
إلى ذلك، ليست أميركا في هذا السياق استثناءً، حيث لم تكن سياسة أوباما شبيهة بسياسة سلفه بوش، وهذه الأخيرة لم تكن نسخة طبق الأصل عن سياسة كلينتون، أعتقد أن الترويج لثبات السياسات بتعاقب الرؤساء في الولايات المتحدة ما هو إلا تضليل إعلامي إستراتيجي قد يكون من جملة أهدافه التأثير في صانع القرار الأميركي الجديد نفسه كي يستمر في السياسات الأميركية القديمة.
خلاصة القول: في الوقت الذي لا نستطيع فيه الجزم بحدوث انعطاف كبير في مسيرة العلاقات الأميركية الروسية، فإن المعطيات المتوفرة تسمح بالتحليل أن نتوقع حصول تحولٍ إيجابي في هذه العلاقات يؤدي إلى وضع نهايةٍ للحرب السورية أولاً وإلى مخرجٍ من الأزمة الأوكرانية ثانياً ما يسمح بتحسن الطقس وانقشاع الغيوم في العلاقات الجيوسياسية بين الطرفين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن