ثقافة وفن

كاتدرائية العباسية ومارية القبطية

| إسماعيل مروة 

ترافق قبل سنوات عيد الميلاد مع عيد المولد النبوي الشريف، وكانت مناسبة نادرة ومعبرة، وقد احتفى بها المسيحيون والمسلمون، وأقاموا احتفالات مشتركة برسولين لا برسول واحد، دعا كلاهما للحب والإخاء والحياة الكريمة المتسامحة، وأذكر أن عدداً غير قليل لم يكن يعنيه الآخر، تحول في ذلك اليوم وشارك، وهنا لا أقصد رجال الدين والعلماء، فهم يقومون بذلك بروتوكولياً، سواء كانوا مقتنعين أم لم يكونوا، وأعتذر لتحفظي على القناعات، فهي حقيقة، ومن الطرفين معاً، وإلا ما وجدنا ما يحصل على الأرض اليوم… ويوم مولد النبي محمد هذا العام لم يترافق مع ميلاد يسوع، لكنه جاء يوم الأحد، وهو عيد وصلاة مرفوعة ليسوع المخلّص، ولم أصدق أن مولد النبي يقدم هدية للمؤمنين بيسوع في كاتدرائية العباسية في القاهرة، تلك الكاتدرائية التي دخلتها قبل تسعة عشر عاماً، وأذكر يومها أنني قلت لصديقي: جئت إلى هذه الكنيسة لأقدم صلاتي أول مرة في صرح قبطي، فمارية القبطية أم المؤمنين وزوج النبي محمد، وأم إبراهيم، هي التي أدخلت إلى قلبه البهجة والسرور بولادة إبراهيم منها، وعندما رحل إبراهيم هي من كفكف دموعه وهو يقول: إن القلب ليخشع، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون… تعجب صديقي، وكأنه لا يعلم أن أم إبراهيم مارية قبطية أرسلها المقوقس للنبي محمد، ولا يدري أنها كانت حرة محترمة في دينها والبقاء عليه، وأنها تنادى عند أي مسلم بأم المؤمنين.. لا أدري الخشوع الذي هبط في روحي يومها في كاتدرائية العباسية التي كانت محطة مهمة أنوي بعدها لقاء البابا شنودة، لكن سفره حال دون ذلك، ولا تزال سبحته الفضية تذكرني بنبله وانتمائه ووطنيته.
حين كشف الاسم الذي اعتدى على المؤمنين في كاتدرائية العباسية كان مسلماً، فهل عرف هذا مكانة الأقباط؟ وهل عرف أن النبي نهى عن الاقتراب من كنائسهم في الحرب فما بالنا بالسلم؟ ألم يخطر بباله ووجدانه- إن ملك- أن أحد هؤلاء المؤمنين كان سعيداً بميلاد محمد، وأنه عازم على الاحتفال؟
ألم يشرب معه ماء النيل؟ ألم تظللهم عظمة أبي الهول؟ ألم يسيرا طريق آلام النصر والهزيمة والسعادة والشقاء معاً؟ ألم يبيتا كل على طريقته يدعوان بأن تكون الحياة أفضل؟ وكيف تكون أفضل؟ هل أغادرها مطروداً منبوذاً مقتولاً ملخطاً بدماء بريئة بينها وبين النبي مصاهرة؟ هل أبكى النبي محمداً مرتين أولى على إبراهيم وثانية على أخواله؟ ترى هل تلقى هذا القاتل دروساً على علماء ومشايخ؟ هل قرأ سيرة النبي وأوامره ونواهيه؟ هل سمع بنصائح الصديق وتوجيهات الفاروق للسرايا التي تذهب للفتح والدعوة؟ أستميح نفسي عذراً قبل أن أستميح الآخر، لا أحد يستطيع أن ينفي انتماء القاتل، ولا أحد يستطيع نفي هويات الضحايا، ولا أحد يمكنه أن يرد التهم عن الفكر الذي يعتنقه، ولا أحد ينكر أن كل شيء يحمله الإسلام في هذا الزمان! ولا يستطيع العلماء ورجال الدين والدولة أن يتملصوا من مسؤولياتهم عن هذا الفكر المتطرف المشبع بالقتل للاشيء، وبالجريمة والإساءة إلى الذات قبل النيل من الآخر… نعم إن الفهم الحالي للإسلام من أبنائه وخصومه مسؤول مسؤولية تامة عمّا يجري، وإن رؤوس الأموال التي يضخها ولاة الأمر المسلمون مسؤولة عن كل قطرة دم… قد تكون جريمة كاتدرائية العباسية النكراء المنكرة سبباً مباشراً في الحديث، لكن ألا يمثل خبر مقتل فتاة على يد والدها لشكه بسلوكها وهي الطفلة سبباً في إعادة التفكير؟ ألا يمثل الحديث الذي نسمعه من خطبائنا على المساجد والمتّسم بالتشدد والصرامة دافعاً لإعادة قراءة الدين قراءة صحيحة؟ وليس صحيحاً ما يقوله بعضهم من أن تجديد الخطاب الديني دعوة أميركية!! فهل إذا أصلحت تعاملي مع أسرتي أخدم أميركا؟ وهل إذا أشعلت شمعة على تمثال العذراء عليها السلام أنفذ مخططاً أميركياً؟ وهل إذا دعوت صديقي المسيحي لحضور احتفال بالمولد أكون خادماً لمشروع أميركي؟
عيب كبير ما يجري وما يحدث، وما يتم نقاشه، فإذا كان القرآن يدعونا من أسس الإيمان أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله فكيف لا نمتثل؟ هل الإيمان بالقتل؟ هل الإيمان بالرفض؟!
قال لي أحدهم: إن المسيحيين لا يعترفون بالإسلام وما يقولونه مجاملة!
هب أن هذا الكلام صحيح، فمن طبيعة الأشياء ألا يعترف السابق باللاحق ببساطة، ولكن ألا يوجد بين المسلمين من لا يعترف بالإسلام نفسه؟ أما ما يقولونه مجاملة فهذا كلام خطير، فهل أحكم على نوايا الناس؟ من هنا جاءت الخطورة بادّعاء المعرفة، وادّعاء الطهرية في الذات، والانحراف في الآخر، وخاصة أن لا أحد يعترف بالآخر، ولا يعرفه، ولا يريده، ومناهجنا قاصرة ومقصّرة… أذكر أن العلامة محمد مهدي شمس الدين قال لي: عندما كنت أدرس في النجف لم يسمح لنا بأن نطلع على كتب الأئمة الآخرين، وهذا الكلام دونته ونشرته، فإذا كان المذهب يمنع أتباعه الأكاديميين من معرفة شركائهم، فما بالنا بهذا التعليم إذا كان الانتماء إلى شريعة أخرى؟
يكفينا ما قمنا بتمثيله من أدوار، أمتنا اليوم تشهد ولادة جديدة علينا أن نسعى بعدم تجميلها وترميمها حتى لا تنفجر مرة أخرى، فلتكن نهضة كاملة اجتماعياً وثقافياً وفكرياً ودينياً… ولنسعَ إلى تكوين طبقة المتنوعين لا إلى محاربتها، وللحديث صلة تتعلق بالتنوير والسياسة، لكن كاتدرائية العباسية المقدسة وأيقونات يسوع والعذراء، وكل صليب فيها، وكل كرسي، وكل جدار، وكل روح، كلها روح وريحان وشموع وبخور، وكل قطرة دم سالت من مؤمن، وهو مؤمن حق تستصرخ الضمائر أن نعيد نهضتنا أن نعود إلى احترام بعضنا، أن نؤمن بأننا على صواب من وجهة نظرنا، وأن الآخر على صواب من وجهة نظره، وأن نؤمن بما في الكتاب (لكم دينكم ولي ديني) وأن نؤمن بأن هذه الجريمة البشعة لم تهز عرش أميركا ولا روسيا ولا فرنسا ولا رئيس الدولة المصرية، بل هزت القناعات بالإسلام واستجلبت غضب الرب، ودمعات ألم من الرسول محمد ومارية القبطية هذا إن كنا مؤمنين حقاً… ولكم الجنان أيها المؤمنون الضحايا وللمجرم اللعنات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن