ثقافة وفن

رياض السنباطي وأم كلثوم لحن وروح وصوت

| أنس تللو

إن كثيراً من الشعراء يغمطون أهل الفن حقهم ويظنون أنهم هم فقط الأحق بالخلود ولعلهم ينسون أو يتناسون أن الفن هو ميزان العواطف التي تفيض بالحياة، وأن الفن الموسيقي هو أرقى الفنون قاطبة.
رياض محمد السنباطي موسيقار وملحن مصري، أحد أبرز الموسيقيين العرب، ولد في مصر عام 1906 وتوفي عام 1981.
السنباطي ليس ملحناً عادياً يستمع إلى الكلمات ثم يضع ألحاناً مناسبة وينتهي الأمر، أنه يسعى إلى فهم الصوت الذي سيلحن له فهماً عميقاً، ويقوم بأداء جمل لحنية تتناسب وتتوافق مع مقدرات ذلك الصوت… وقد تعامل السنباطي مع عدد من المطربين منهم كوكب الشرق أم كلثوم حيث ظهرت براعته على أشدها، وتفنن في الألحان أيما تفنن.

فلقد درس صوت أم كلثوم وفهمه فهماً عميقاً، وأدرك مواطن القوة فيه وعرف مناحي الضعف، فظهرت براعته الفائقة في مقدرته العجيبة على تطويع اللحن بما يتناسب مع قوة صوت أم كلثوم، وفي قدرته المتميزة في وضع الزخرفة اللحنية بما يتناسب مع المعاني السامية التي يضعها كاتب الكلمات فتخرج الأغنية لوحة فنية تأخذ بالعقول وتسبي الألباب، صوتٌ رائع ولحن عظيم، وكلمات راقية.
وكما أن أنفاس الطبَّاخ الماهر التي ينفخ فيها في الطبق أثناء الطبخ عن غير قصد تدخل في صميم مذاق الطعام وتضفي على الطعام نكهة خاصة به… كذلك فإن أنفاس السنباطي تدخل في ثنايا الأغنية التي يلحنها فتهب كلماتها بعداً خاصاً…
كان السنباطي ينفخ في اللحن من روحه، لذلك فإن روح السنباطي ترتع في ثنايا الأغنية، ويفوح عبقها من كل كلماتها، لذلك فإن المتمرس والعاشق لألحان السنباطي ما إن يسمع بداية المقطع الموسيقي يدرك تماماً أنه يستمع إلى السنباطي، لأن أنفاس السنباطي تفوح مع كل نغمة.
وإن خير مثال على ذلك التلحين البارع الذي كان يخاطب أرواح الناس هو أغنية ( عودت عيني على رؤياك) التي كتبها الشاعر أحمد رامي ولحنها السنباطي، فقد وضع فيها من الجمل اللحنية والزخرفة الموسيقية ما يجعل المستمع يصل إلى مرحلة شديدة من الطرب مع تلك الألحان البديعة، بل إن هذه الأغنية تحمل من الألحان ما يجعل المرء يطير بجناحين من ذكرى وخيال هائماً في الفضاء لدى الاستماع إلى الموسيقا الممتزجة بذلك اللحن المعبر البديع، ولاسيما حين يستمع إلى تلك المقدمات الموسيقية الرائعة التي يصوغها السنباطي ببراعة فائقة لتبدو وكأنها قطع من روحه التي انصهرت في اللحن وذابت فيه فأظهرته بحلة تجعل المستمع يذوب من فرط الطرب الذي يحرك الشوق ويذكي نار اللوعة، وإن خير مثال على ذلك هو المقطع الثالث من أغنية عودت عيني على رؤياك الذي يقول:
لو كنتِ خدتِ على بعادكْ
كنت أقدرْ أصبرْ واستنى
وأسهرْ على ضيّ مِعادكْ
لما الزمانْ يجمع بيننا
أباتْ على نجواك
وأسهرْ على ذكراك
وأسرحْ وفكري معاك
لكن غالبني الشوقْ في هواك
وإن مر يوم من غير رؤياك
ما ينحسبشِ من عمري
ولا يفوتني أن أشير إلى أن السنباطي في هذه الأغنية (عودت عيني على رؤياك) قد استخدم مقاماً موسيقياً قوياً يصلح لأغنية قومية، استخدمه لأغنية عاطفية، وهذا بسبب مقدرته الفذة، فهو لم يلجأ إلى مقام موسيقي جاهز لغرضه، وإنما أخذ الأمور من المأخذ الأصعب، أي إنه سار في الطريق التي لا يسلكها إلا الجبابرة العظماء.
لقد كان رياض السنباطي مثل الخياط الماهر الذي يفحص جسم الإنسان بشكل دقيق فيكتشف ما فيه من العيوب ويلاحظ ما فيه من المزايا، فيخيط الثوب بدقة متناهية تخفي العيوب وتظهر المزايا بوضوح وتركز عليها.
وهو هنا يسخر فنه وموهبته لخدمة أم كلثوم على عكس غيره من الملحنين، فقد كان زكريا أحمد مثلاً يلحن اللحن لأم كلثوم ليقول الناس إن زكريا ملحن عظيم، وإن زكريا أحمد خياط بارع، أما السنباطي فقد كان يخيط الثوب ليقولوا عن أم كلثوم إنها هي إنسان فاتنة جميلة.
ويمكن تلخيص مزايا السنباطي في الأمور التالية:
1- لقد وضع السنباطي فنه وعبقريته في التلحين في خدمة أم كلثوم.
2- فهم السنباطي صوت أم كلثوم تماماً، فصار يصوغ لها جملاً لحنية تتناسب مع صوتها بحيث كانت تلك الجمل تغطي العيوب وتبرز المزايا.
3- فسح المجال لها للتفريد بصوتها، أي إنه لم يقيدها بألحانه، فكان بإمكانها أن تخرج عن اللحن المرسوم إلى نغمة أخرى تبتدعها بنفسها في ثنايا الأغنية.
4- كان السنباطي بارعاً جداً بحيث كان يتمكن من تطويع اللحن لخدمته.
من ألحانه لأم كلثوم:
رباعيات الخيام
على بلد المحبوب 1935
افرح يا قلبي 1937
النوم يداعب جفون حبيبي 1937
فاكر لما كنت جنبي 1939
يا ليلة العيد 1939
يا طول عذابي 1940
ذكريات 1955
قصة الأمس 1957
عودت عيني 1958
أروح لمين 1958
دليلى احتار 1958
هجرتك 1959
الحب كده 1959
لسه فاكر 1960
حيرت قلبي معاك 1961
حسيبك للزمن1962
ثورة الشك 1962
اقول لك إيه 1963
أراك عصي الدمع 1965
الأطلال 1966
أقبل الليل 1969
من أجل عينيك 1972
جددت حبك ليه 1952
وإنه لما يؤسفني أن أقول إن الملحن الأصيل يكاد يزول من مجتمعاتنا، تماماً كما يزول المطرب الأصيل.
اليوم ليس هناك من داع أصلاً لأن يلتقي الملحن مع الشاعر… ألحانٌ جاهزة توضع، يتم إلباسها إلى أغنية ما… ثم يمكن (تبديل الأغنية) وإلباسها اللحن نفسه.
يا له من وضع موسيقي مزرٍ وصلنا إليه.
ولماذا يظهر الملحن الأصيل والمطرب الأصيل… من سيستمع إليه… سوف يزول المطرب المبدع بسبب زوال المستمع الذواق… وبالتالي كيف نطلب من الجيل الجديد أن يحب السنباطي مثلاً، ولا يوجد حالياً سنباطي؟
إن في ماضي هذه الأمة التليد علماً وفناً وحضارة… لكن ليس معظمنا يحفل كثيراً بذلك العلم أو يأبه لتلك الحضارة أو يطرب لذلك الفن.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن