ثقافة وفن

عيد الموسيقا العالمي

د. علي القيم : 

 

سنة إثر سنة يزداد اهتمام العالم بالاحتفال بيوم الموسيقا، في الحادي والعشرين من شهر حزيران من كل عام، وقد أصبحنا ندرج هذا اليوم في عداد الأيام المهمة التي نحتفي بها، ونقيم بمناسبتها الاحتفالات ونعد البرامج المناسبة لها، لعل هذا يعيد لهذا الفن الجميل ألقه وحيويته في حياتنا الثقافية والاجتماعية، في وقت أصبح سماع الموسيقا يخترق كل أجواء النشاط الإنساني، وظلت دائماً مرآة تعكس النشاط الحياتي، وتطمح في غايتها الإبداعية لإظهار وتجسيد عالم الإنسان الروحي.
إن «يوم الموسيقا» يدعونا إلى البحث في جوهرها، الذي يكمن من خلاله التساؤل الفلسفي: لماذا نشعر ونحن نصغي إليها بذلك الفرح الكياني المنزه عن الدوافع والغايات..؟ لقد اعتبر «أفلاطون» الفن الموسيقي أحد المحركات الرئيسية السامية للبشر.. فهي كما يقول: «الصدق والحقيقة اللتان وجدتا منذ بدء الخليقة، ومن خلالها عرف العالم النظام، وتحقق له التوازن»، وفقاً لهذا القول نجد أن الموسيقا قد خدمت البشرية في تحقيق التوحيد بين أحاسيس البشر، ومختلف عناصر الحياة في المجتمع الواحد، وبين المجتمعات المختلفة، وتمكنت من التعبير عن الفرد، وعن الجماعة في تنسيق ووحدة.
إن الموسيقا كانت في حضاراتنا القديمة تلعب في حياة الناس دوراً قيادياً، وكان الحكماء والفلاسفة يساوون بين ازدهارها أو تدهورها، وبين ارتقاء أو انحطاط الثقافة والأخلاق، بل الدولة بكاملها.. لذلك ليس غريباً أن يعطيها، «هرمان هيسة» قوة كبيرة تتسلط على الأرواح والأقوام، وتسيرهم وكأنها وزير آمر، أو قانون ينضوي له الناس ودولهم.
الموسيقا التي نتحدث عنها في «عيد الموسيقا» هي تلك التي تترجم الأفراح والآلام الحميمة بوساطة بعض العلائق بين الأنغام، وتقوم بتجريد الطبيعة من وحشيتها وفجاجتها، فتخفف من حدتها، وتلطف من لهجتها وتطهرها من كل ما هو مبالغ فيه، وغير متلائم مع الوضع، فترتفع فوق القوة البدائية الكامنة في الانفعال الذي تروضه بأن تحول الانتفاضة الداخلية إلى إدراك للذات، وتضعها في مواجهة نفسها محررة القلب من ضغط الأحزان والمسرات.
إن «فيثاغورث» عندما تكلم عن انسجام الأفلاك، لم يقل بأن حركة الأجرام السماوية تجعلنا نسمع موسيقا، بل إن هذه الحركة ذاتها هي موسيقى، ما حدا بسقراط إلى القول عن صواب بأنه «وحده موسيقار ذاك الذي يستطيع أن يرتفع من الموسيقا الحسية إلى الموسيقا فوق الحسية والقابلة للإدراك».
هذا الإدراك هو الذي جعل «نيتشه» يقول عن الموسيقا: «إنها تحررني من نفسي، إنها تسكرني عن نفسي، كما لو أني كنت أنظر إلى نفسي من حالق.. إنها تقويني.. إن الحياة من دون موسيقى هي بكل بساطة غلطة.. تعب.. منفى..».
الحديث عن الموسيقا في «عيد الموسيقا» يدعونا إلى الوقوف عند الكلمة، التي ترتبط بموسيقانا العربية، فالكلمة المغناة تكتسب طاقة على التعبير، أقوى أضعاف المرات من تأثير الغناء، إذ تحطم الأنغام قشرة العادة السميكة، التي تتحجر ضمنها، عواطفنا، نفتح قلوبنا لكل ما تقوله الألفاظ، تحدثنا عن الحب.. تحكي لنا عن العواطف، فنفيض عذوبة وحناناً، ونصدق كل ما تدعيه العبارات لأن الموسيقا حررتنا من سجن الأنا الضيق.
الكلمة تقودنا إلى المغني بمعناه الأصيل، وليس بمعناه في وقتنا الراهن، فإن أهميته في مجال الموسيقا لا تكمن فقط في قوة صوته، وطول نفسه، وفي جمال أوتار حنجرته، بل في الروح التي يبثها عبر إنشاده.. الذي يعرف كيف يجسد فيه تلك الأحاسيس التي قصد إليها الملحن، فيصبح أداة لنقل العاطفة، وترجمة لغة القلب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن