ثقافة وفن

بين العاطفة والضمير

 رانيا كرباج :  

لن ننجو إلا عندما نتمكّن من إطفاءِ نارِ العاطفةِ والاهتداءِ بنورِ الضمير بغير ذلكَ لن نتمكّن من النجاة.
كثرٌ من يسيرونَ وراءَ عواطفهم أو تسيّرهُم عواطفهُم مُعتقدين مُجاهرينَ بأنّهم أصحابُ ضمير، علماً بأن بينَ العاطفةِ والضمير فرقاً شاسعاً قد يعادل ما هو بينَ الإنسانية المُنفتحة الواعية والبهيمية الأولى غيرِ العاقلة.
فالعاطفة ذاتية غريزية تتمحوَر حولَ رغباتِ الفردِ وحاجاتِهِ الأولية،تنبعُ من الأنا وتصبُّ فيها، من تركيبةِ تلكَ الأنا الجسدية والنفسية والاجتماعية، لذا أقول إن علينا إطفاء نار العاطفة ليس عبر تجاهلها أو كبتها إنما من خلال تفهّمها وجعلها تحتكم إلى صوتِ الضمير.
أما الضميرُ فواعٍ، إنساني، وكوني، إنّهُ الأنا التي تتّسع للكل، إنّه الأنا المنفتحة على الكل، إنّهُ ذاكَ الصوتُ العتيقُ فينا، وذاكَ الضوءُ الذي لا يخفت ولا يبهت ولا يستكين، ولن تصلَ الإنسانيةُ إلى تلكَ الحريّة المنشودة إلا عندما تتمكّن من كسرِ أطواقِ الغريزة وتنفتح على صوتِ الضميرِ فيها وتقبل أنّها جزءٌ صغير من ذاكَ الكون الكبير.
يستنكر البعض ليقول إنّنا عقلانيون وفي العقل وحده خلاصنا وما الضميرُ إلا صرخةُ الضّعفاء في عالمٍ متسارعٍ مُستهترٍ مُستعدٍّ دوماً لالتهامِك وابتلاعِ أحلامِك لا يثنيهِ عن مآربِهِ كلّ كلماتِ الحقِّ وصرخاتِ أصحابِ الضّمير.
صحيحٌ أنَّ في العقلِ قوّتنا ولكنّهُ ما لم يكن منفتحاً بحيثُ يُشكِّل معبراً تستطيعُ من خلالِهِ أن تسمو غرائزنا وأفكارُنا وترتقي لتُلاقي عقلَ الكونِ الرحب وعاطفَتَهُ اللامتناهية السّعة، فإنّهُ سوفَ ينقلِب حتماً ليتحوّل إلى سجننا.
نعم في هذا العقلِ الذي مادمنا قد اعتبرناهُ فخرنا، سنُسجن، ستتآمرُ علينا مشاعُرنا ورغباتنا وتاريخنا بكلِّ ما يحمِل من انتصاراتٍ وانكساراتٍ لتلتفَّ حولنا كقضبان لها جذورٌ ضاربة في الزمانِ، وستحاوِلُ جاهِدةً أن تستبقينا في هذا المكان حيثُ لا يصِلُ نورٌ ولا يتدفّقُ حُبّ.
يقولونَ في الأسطورة إنّ الإنسانَ اختارَ أن يأكلَ من شجرةِ المعرفة، أي إنّه منذ البداية اختارَ طريقَ الوعي، فالتفاحةُ التي التهمها ليست إلا تعبيراً رمزياً عن رغبتهِ الجامحة في التهامِ الحياة، التهام الحياة بمعنى الانغماس فيها حتى الوصولِ إلى المعرفة، المعرفة التي هي الله، ولكن أقول إنّ هذه التجربة تجربة الإنسان على الأرض ما لم تهتد بنور الضمير فسوف تنتهي به إلى الجحيم، ليسَ الجحيمُ في الحياةِ الآخرة كما يُقال وإنّما الجحيمُ هنا بيننا وفي نفوسنا.
صحيحٌ أنّ الإنسانَ هو في النهاية مخلوقٌ من جسدٍ وروح وبالتالي غريزة ورغبات وحاجات، لكنّه يمتلك حرية الاختيار بينَ ما أُتيحَ له من زمنٍ في اللّهاثِ لإرضاء وجوده المادي ولن ينتهي أو يكتفي، أو أن يقرّرَ في لحظةِ صفاءٍ وصدقٍ عظيمة أن يخرج من دوّامة نفسه ويكتشف أنّ هناكَ صوتاً آخر يهديه، هو عقلٌ أوسع وأرحب من وجوده الضّيق، هو عقلٌ كاملُ الفهمِ والمعرفة ما عليه سوى الإيمان به حتى يتجلّى أكثر وأكثر، هو صوت الضمير القادر على رفع غرائزنا من المستوى البهيمي إلى المستوى الإنساني.
في هذه اللحظة فقط نتحوّل، من إنسانٍ حزينٍ مُحبَط أو غريزي أناني إلى إنسانٍ متنوّرٍ منفتحٍ، من إنسانٍ بلا أمل إلى إنسانٍ ممتلئٍ بالنعم، نتحوّل من إنسانٍ عقلانيٍ مُرهقٍ إلى إنسانٍ كوني.
نتحوّلُ من عبيدٍ إلى أسياد على عرشِ الحياة، قادرينَ على توسيعِ رقعةِ الجمالِ فينا وتقويضِ كل ما يعوق نموّنا.
أوليست الحرب أنانيةً وغريزة عمياء بلغت أشدّ أشكالها تطرفاً!!!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن