ثقافة وفن

دردشات في الأوراق المخفية من تاريخ صحافتنا …«الجوائب نموذجاً»

 شمس الدين العجلاني : 

تروي صفحات التاريخ القلق والارتياب العثماني من الصحافة والصحفيين، ووصل هذا القلق عند بعض الحكام العثمانيين إلى الخوف والهلع!؟ وروي عن السلطان العثماني عبد الحميد قوله: «لو عدتُ إلى قصر يلدز لوضعتُ الصحفيين في أتون كبريت».
لذا عمل المحتل العثماني على اختراع «المكتوبجي» وهو الرقيب العثماني على الصحف والصحفيين، بل على جميع أنواع الفنون والثقافة، حتى كان من مهامه معرفة: (أول من يقرأ الصحف المحلية والأجنبية -الدكتور سنان سعيد) وهذا ما ذكره أيضاً الصحفي التركي أحمد أمين بك، وبأن السلطان العثماني شكل لجنة رقابة، من مهامها التجسس على (أول من يقرأ الصحف المحلية والأجنبية).
كان السلطان العثماني عبد الحميد الثاني: (يخشى على حكمه وحياته من خطر الصحافة)، لذا عمل على كتم أفواه الصحافة، وفرض حكماً استبدادياً واضطهد الصحفيين وقام باعتقالهم وسجنهم ووصل الأمر بالعثمانيين إلى أنهم كانوا يعتدون بالضرب على الصحفيين في الحارات والأزقة، كما حصل مع الصحفي سليم سركيس المحرر في صحيفة «لسان الحال» حين قام المكتوبجي «برفعه فلقة» في إحدى حارات بيروت، وسركيس هو صاحب كتاب «غرائب المكتوبجي» الذي فضح به جهل واستبداد هذا المكتوبجي.
كان المكتوبجي العثماني يحصي أنفاس الصحفيين على طول السلطنة العثمانية وعرضها، ويمارس صلاحياته بكل مزاجية وشخصانية وحماقة، ولم يكن يُشترط في تعيين المكتوبجي أي شروط سوى الطاعة العمياء للسلطات العثمانية وكان نادراً ما ترى «مكتوبجي» عربياً، بل هم من الجنس العثماني وأغلبهم لا يتقن اللغة العربية!؟ ويراقب الصحف العربية!؟ لأن السلطان العثماني يريد من الصحافة العربية «تنوير الشعب عن صحة جلالة مولانا الملك الغالية».

بائعو ضمائرهم
لم يكتفِ المحتل العثماني باضطهاد الصحفيين وتعقبهم في أرجاء السلطنة العثمانية بل اتبع أسلوب الترهيب والترغيب في علاقته مع الصحفيين وخصص الأموال الطائلة لشراء ضمائر بعض الصحفيين ليسيروا في ركبه ويطبلونا ويزمرونا له!!
اشتهر السلطان العثماني عبد الحميد بخشيته من الصحافة فسعى إلى اضطهادها وشراء ضمائر العاملين بها، وأيضاً اشتهر جمال باشا السفاح قائد الجيش العثماني الرابع في سورية بتنفيذ رغائب السلطان العثماني بالدفع للصحف والصحفيين ليكونوا أداة وألعوبة بيده، فقد أوعز الباب العالي العثماني في نيسان من عام 1916 م للسفاح جمال باشا بأن يعمل على إصدار صحف للدعاية للدولة العثمانية وأفكارها في بلاد الشام، وفعلاً قام السفاح بهذه المهمة واشترى من اشترى من الصحفيين السوريين بدمشق وبيروت وأصدر جريدة «الشرق» الدمشقية وعهدها إلى شخصية دمشقية معروفة، وكذلك أصدر في بيروت جريدة «الرأي العام» التي كانت لسان حال جمال باشا السفاح، وعهد برئاسة تحريرها إلى شخصية بيروتية معروفة… وللحديث صلة فيما بعد.
وكانت من أقدم وأهم الصحف العربية التي سارت في ركب المحتل العثماني صحيفة «الجوائب» ذائعة الصيت التي صدرت في الآستانة يوم 31 أيار سنة 1861م، وكان القيّم عليها من أهم الشخصيات الفكرية والثقافية والسياسية آنذاك، ألا وهو أحمد فارس الشدياق!؟ حتى يقال: إن «الجوائب» والت أيضاً البريطانيين ضد ثورة عرابي بمصر!؟
وفي هذا الصدد وعن عمالة بعض الصحفيين للمحتل العثماني يذكر فخري البارودي في مذكراته: «أصحاب الجرائد يبيعون أنفسهم للاتحاديين مقابل عشرين ليرة عثمانية في الشهر» ويعزو البارودي تركه العمل بالصحافة زمن المحتل العثماني إلى الفساد والرشوة التي كان يتقاضاها بعض أصحاب النفوس الضعيفة من العاملين في الصحافة آنذاك.
لم يُكتب الكثير عن هؤلاء الصحفيين الذين باعوا ضمائرهم للمحتل وخانوا الوطن، ولكن في بطون بعض الكتب وبين سطور كلمات الجرائد التي كانت تصدر في ذاك الزمن نستطيع أن نقرأ، العديد من حكايا من كان يمشي في ركاب المحتل على حساب الوطن!؟ والغريب في الأمر أن هنالك أسماء كبيرة كان لها الباع الطويل في التعامل مع المحتل والمستعمر، ومن هذه الأسماء من نتغنى بهم حتى الآن حين الحديث عن الوطنية والأدب والفكر والصحافة!؟ وهذا الأمر ينطبق على ذاك الزمن البعيد وهذا الزمن القريب وهذه الأيام!؟

صحيفة الجوائب والشدياق
«الجوائب» صحيفة أسبوعية سياسية صدرت في الآستانة يوم 31 أيار سنة 1861م، وظلت تصدر لمدة 23 سنة، أصدرها اللبناني أحمد فارس الشدياق، فقد استدعى السلطان عبد الحميد العثماني الشدياق إلى الآستانة، وعهد إليه إدارة المطبعة السلطانية، وبعد عدة سنوات من عمله في المطبعة أصدر عنها صحيفته «الجوائب»، قبل أن ينشئ مطبعة خاصة به سنة 1870م والتي أضحت من أشهر المطابع في السلطنة العثمانية.
كانت «الجوائب» من أهم الصحف العربية ونالت شهرة واسعة لم تنلها جريدة سواها، وبلغت من حسن التبويب والإتقان، وبراعة التحرير وجودة الأساليب حداً جعلها أكبر صحف ذلك العهد. صدر بحقها عدة أوامر تعطيل فعطلت ذات مرة ستة أشهر بتاريخ 2 تموز 1871م لامتناع مديرها عن نشر مقالة تحمل طعناً بالخديوي إسماعيل، ثم صدر أمر آخر بتعطيلها في 7 كانون الأول سنة 1879م مدة أسبوعين لنشرها عبارات عُدت ضد مصلحة الدولة العثمانية.
وكانت الجوائب لا تخلو من المناظرات العلمية أو السياسية بين صاحبها وأكبر علماء ذاك العهد كالشيخ إبراهيم اليازجي… والمعلم بطرس البستاني ورزق اللـه حسون… وكان مما يعاب على أحمد فارس خلطه المناظرة العلمية بالمقاذعة ثم العدول عن البرهان إلى الطعن والذم والشتم وإلى ما شاكل ذلك.
والشدياق هو ابن يوسف بن يعقوب بن منصور بن جعفر شقيق بطرس الملقب بالشدياق بن المقدم رعد بن المقدم خاطر الحصروني الماروني، هو الصحفي والسياسي والكاتب واللغوي والمترجم اللبناني، يعد أحد أهم الإصلاحيين العرب، هو المثقف اللامع والعقل الصدامي المناوش… هو من ألمع الرحالة العرب الذين سافروا إلى أوروبا خلال القرن التاسع عشر.
ولد في لبنان سنة 1804 م وتوفي في الآستانة سنة 1887م، ثم نُقِل جثمانه إلى لبنان وصُلِّيَ عليه بالجامع العُمَري الكبير ببيروت، ودُفِن في محلة الحازمية، هو ماروني بالولادة، وتحول أكثر من مرة بين أكثر من طائفة في المسيحية إلى أن استقر على الإسلام. عاش في إنكلترا ومالطا ورحل أيضاً إلى فرنسا. يعد الشدياق أحد أهم الإصلاحيين العرب في عهد محمد علي وله منهجه الإصلاحي الخفي الذي يبدو فيه أنه فضل التورية والترميز على التصريح والإشهار وذلك لما كان يحويه منهجه من انتقادات لاذعة للقيادات الرجعية ولخوفه من أن يدان منها أو تحرق أعماله ويظهر هذا في كتابه (الساق على الساق فيما هو الفارياق) الذي يعد الرواية العربية الأولى.
تنقل الشدياق بين العديد من البلدان العربية والأوروبية فزار سورية وتونس وعمل بها مديراً للمعارف وترأس تحرير جريدة الرائد التونسي، وزار القاهرة، فأكرمه الخديوي توفيق… إلى أن استدعاه السلطان عبد الحميد العثماني بوساطة الباي، وعهد إليه إدارة المطبعة السلطانية.

مع المحتل العثماني
والحق يقال: إن الشدياق كان على علاقة وثيقة بالسلطان العثماني وتلقت «الجوائب» الدعم منه، واستخدمت هذه الصحيفة لبث فكرة الخلافة الإسلامية، بين المسلمين المنتشرين خارج الدولة العثمانية، فكانت «الجوائب» لسان حال المحتل العثماني، و«الجوائب» كانت تتقاضى الأموال من المحتل العثماني وغيره! فقد ذكر أن السفارة البريطانية في اسطنبول دفعت ألف ليرة إنكليزية لقاء طبع صورة المنشور الذي صدر من الباب العالي بإعلان عصيان أحمد عرابي باشا لإثارة الفتنة في وادي النيل، وبهذا الصدد يذكر محمود الخفيف في كتابه «تاريخ الثورة العرابية»، ومصطفى الشهابي في «مجلة الهلال»، عدد أيلول 1982 م بما معناه، كانت الجوائب تصدر بدعم من الباب العالي، ولذلك لم يكن غريباً أن تنشر في 6 أيلول 1882 إعلان الباب العالي عصيان أحمد عرابي ورفاقه أثناء كفاحهم الغزو الإنكليزي لمصر سنة 1882، وهو الإعلان الذي صدر بإيعاز من الإنكليز أنفسهم.
جاء في قرار العصيان الذي نشرته الجوائب:
«بإرادة سيدنا ومولانا السلطان المعظم أمير المؤمنين خليفتنا الأعظم، إشعاراً لجميع المسلمين بأن الأفعال التي أجراها عرابي وأعوانه ورفقاؤه في مصر مخالفة لإرادة الدولة العلية السلطانية ومجحفة لمصلحتها ومضرة بمصر ومغايرة لمصلحة المسلمين، وبناء على ذلك تقرر أن عرابي وأعوانه عصاة، وبهذه الصفة تجري معاملتهم»
وقد اشترى سفير إنكلترا لدى الباب العالي ألوفًا من هذا العدد وأرسلها إلى جميع البلدان الإسلامية، وخاصة مصر، حيث وزع هذا الإعلان بين أفراد الجيش، فكان له أسوأ وقع بين الضباط والجنود، الذين تخاذلوا عن القتال بعد أن عرفوا فحواه، وقال بعض الضباط لعرابي (كما جاء في مذكراته): إننا عصاة على السلطان مخالفون لكتاب اللـه وسنة رسوله، ومن مات منا عاصيًا فلا أجر له. « محمود الخفيف ومصطفى الشهابي».
يذكر شمس الدين الرفاعي في كتابه عن تاريخ الصحافة بكل وضوح، أن الشدياق كان يقبض!؟ «كان أحمد فارس يقبض كل سنة خمسمئة ليرة عثمانية من السلطان» وأيضاً حسب رأي الرفاعي، كان الشدياق يقبض من: «كل من الخديوي إسماعيل باشا ومحمد الصادق باشا باي تونس ينفحه بمثل هذا المبلغ المذكور لأجل خدمة أفكارهما وترويج مصالح بلادهما» إن «الجوائب» التي نشرها الشدياق هي: «لسان حال السلطات التركية في البلاد السورية – الرفاعي».

وبعد
التاريخ يكتب بحد السيف، ولكن الأيام تسقط كل ما هو مزيف ويبقى التاريخ الحقيقي لمن يرغب أن يقرأ..
لا نريد من خلال كتابتنا عن الوجه الآخر لبعض صحفنا وصحفيينا سوى الإشارة إلى أن التاريخ لا يرحم، وأن التاريخ مهما طال فهو يحفظ ويسجل كل الوقائع والأحداث وسير الشخصيات السياسية والأدبية والفنية والدينية.. ويسجل الوقائع بلونيها الأبيض والأسود، والباحث في صفحات التاريخ يكتشف حكايا وقصصاً قديمة تُقرأ في صفحات التاريخ، يعجز القلم واللسان عن وصفها، شخصيات كبيرة تبوأت أعلى المناصب السياسية والثقافية والأدبية والصحفية ولكن سقطت في المستنقع..
ما أشبه اليوم بالأمس وماذا سيسجل التاريخ عن يومنا هذا وعن الأبواق الصحفية التي باعت الوطن وعاشت على فتاتات البترودولار، وسكنت فنادق ومكاتب ذات النجوم الخمسة ونادت بالباطل في سبيل مصالح شخصية؟.

المراجع:
ما ذكر في متن المقالة – تاريخ الصحافة السورية لشمس الدين الرفاعي – أرشيفي الخاص

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن