ثقافة وفن

الكاريكاتير فن الإبداع في عالم الصحافة … اختزال كم هائل من المشاعر والمواقف في تكييف بصري

| شمس الدين العجلاني

على الرغم من كم الأفواه أيام الاحتلال العثماني لبلادنا وقسوته وبطشه في أواخر أيام السلطنة المتهالكة، فقد لعبت الصحافة السورية دوراً مهماً في تاريخ العرب الحديث، حيث ظهرت في بداية القرن العشرين الجرائد باللغة العربية وأثرت تأثيراً بالغاً في الفكر العربي القومي، وكان من جراء ذلك أن اضطهدتها الحكومة العثمانية، وشددت الرقابة عليها عن طريق ما اصطلح حينها بتسميته «المكتوبجي».
عندما دخل الأمير فيصل والإنكليز إلى سورية لإنهاء الاحتلال العثماني وأقاموا الحكومة العربية الأولى والأخيرة في تاريخنا الحديث تحت لواء الملك فيصل، عادت وازدهرت الصحافة السورية ولم يفرض عليها آنذاك أي رقابة، إلى أن احتل الفرنسيون سورية سنة 1920م فاختفت الصحف التي ظهرت أثناء فترة الحكومة العربية الأولى، وحل محلها صحف أخرى بعضها موال للاحتلال الفرنسي والآخر مقارع له، ثم قام المفوض السامي الفرنسي على سورية ولبنان باضطهاد الصحفيين، وتعطيل وإغلاق الصحف، ما اضطر أصحاب الصحف المعطلة حينها للصدور بأسماء أخرى، فعلى سبيل المثال حين كان المحتل يعطل مجلة «المضحك المبكي» كانت تصدر باسم «ماشي الحال».

ناضل صحفيو سورية ضد المستعمر الفرنسي سنوات طويلة بالسلاح والكلمة وتحدوا الاحتلال وأصدروا عشرات الصحف والمجلات في دمشق وحلب واللاذقية وباقي المحافظات.
في الأربعينيات من القرن الماضي صدر بدمشق وحلب العشرات من الصحف اليومية وعشرون صحيفة أخرى في بقية أنحاء سورية لدرجة أنه بلغ عدد الصحف اليومية والأسبوعية سنة 1948 خمساً وأربعين صحيفة، مع الأخذ بالحسبان أن عدد سكان سورية كان آنذاك أربعة ملايين نسمة!! والآن وتعداد سكان سورية يتجاوز ثلاثة وعشرين مليوناً فكم صحيفة ومجلة تصدر في يومنا هذا!؟
صحيح أنه خلال السنوات الماضية تم الترخيص لمئات من الصحف والمجلات الأسبوعية والشهرية والفصلية، ولكن مع الأسف لم يتم إصدار سوى صحيفة يومية سياسية واحدة.!؟ وهنالك مجلة أسبوعية واحدة لم تزل صامدة حتى الآن!؟
لقد عجزت وزارة الإعلام والمجلس الوطني للإعلام حتى الآن بالعودة بنا إلى فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي لتزهو سوريانا بصحفها ومجلاتها.!؟
فن الكاريكاتير مغيب عن صحفنا

على أهميته يغيب فن الكاريكاتير عن صحفنا المعدودة على أصابع اليد، فبينما كنت أطالع بعض المجلات السورية الصادرة خلال الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، توقفت مطولاً عند الرسومات الكاريكاتيرية التي كانت تنتقد بعض الوزراء على ممارساتهم، فلماذا لا تمارس صحافتنا الآن مثل ذلك؟ فهل الوزير والنائب والشباب المسؤولون وأصحاب الكراسي في أيامنا هذه إن أخطؤوا هم خط أحمر؟ ناهيك عن صدور بعض الانتقادات بين الفينة والأخرى في صحفنا، ولكن مجلة «المضحك المبكي» خصصت طوال فترة صدورها غلافها الأول والأخير لفن الكاريكاتير.
إن لفن الكاريكاتير المقدرة على اختزال كم هائل من المشاعر والمواقف في مشهد واحد يعتمد التكثيف البصري والمعالجة الغرافيكية، فهو ذلك الفن الذي يتقن المناورة والوخز المؤلم الشافي، مهمته تحريضية نحو الأفضل يقدم لغة يفهمها الجميع لأنها تداعب هواجسهم وهمومهم وتترك لهم متسعاً من الوقت ليضحكوا بمرارة ساخرين من أنفسهم من حياتهم من الطحالب النابتة في زوايا الحياة المعتمة. وهذه نماذج من فن الكاريكاتير مع الوزراء في أيام زمان:

جميل الإلشي
ولد بدمشق عام 1883م وقطن في حي القيمرية- تلة القاضي، وهو ابن زاهد الإلشي، متزوج وله ولـدان، تلقى علومه الثانوية في دمشق وعلومه العالية في الآستانة وهو يتقن اللغات التركية والفرنسية والألمانية وقليلاً من الإنكليزية.
كان وزيراً في حكومة الأمير سعيد الجزائري «27 أيلول 1918- 30 أيلول 1918» ثم وزيراً للحربية في وزارة علاء الدين الدروبي عام 1920م، ثم كان رئيساً للوزارة ووزيراً للحربية، ثم تقلد عدداً من الوزارات فكان في عام 1928 وزيراً للمالية، وفي عام 1934م وزيراً للأشغال العامة، وفي عام 1943م تقلد رئاسة مجلس الوزراء ووزارة الداخلية واستعمل الحقوق الممنوحة في المادة (84) من الدستور وأصدر مرسوماً اشتراعياً بانتقال سلطات رئيس الجمهورية إليه كرئيس مجلس الوزراء وذلك إثر وفاة رئيس الجمهورية الشيخ تاج الدين الحسني. ويبدو في زمن استلامه وزارة المالية عام 1929م كان هم الوزراء صرف النفقات الكثيرة في غير سبلها، وهذا ما عبرت عنه مجلة «المضحك المبكي» في عددها الثالث لعام 1929، فقد نشرت على غلافها رسماً كاريكاتيرياً لجميل الإلشي مع خزنة حديدية فارغة، والتعليق يقول: «منين بدي لحقلكم مصاريف شي بطعمة وشي بلا طعمة شو مفكرين عندي خزنة الولايات المتحدة!!!».

توفيق شامية
هو من العائلات الدمشقية المعروفة، كان محافظاً لمدينة دير الزور ومحافظاً للحسكة بالوكالة وذلك في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، كما كان وزيراً للمالية، ووزيراً للزراعة والتجارة، وهو صاحب الفكرة الأولى في إنشاء فندق بلودان وصاحب اليد الطولى في وضع هذه الفكرة حيز العمل والتنفيذ وذلك عام 1931. وفي فترة تقلده وزارة المالية رأى أن النواب في البرلمان كان همهم قبض الرواتب الكبيرة في وقت لا تتوافر فيه السيولة المالية في وزارة المالية، وهذا ما عبرت عنه مجلة «المضحك المبكي» في عددها رقم 122 تاريخ 9 نيسان 1932، على غلافها الذي حمل رسماً كاريكاتيرياً للوزير شامية أمام خزنة حديدية فارغة، والتعليق عليها يقول: «ما في بالخزنة ولا متليك منين بدنا نجيب معاشات لسبعين نائب».

شاكر نعمت الشعباني
هو السياسي النائب والوزير الحلبي، تقلد وزارة المالية مرتين، الأولى عام 1926م زمن حكومة الداما أحمد نامي، والثانية عام 1934م زمن حكومة حقي العظم، كما كان عضواً في مجلس النواب عام 1932. قيل: إنه من المتعاملين مع المستعمر الفرنسي، لذا تعرض لانتقادات الصحف والمجلات السورية وخاصة مجلة المضحك المبكي، التي لم توفر مناسبة إلا وأشارت إليه بالبنان، فهو حسب رؤية المجلة يدعو إلى اللـه في صلاته: «اللهم القادر على كل شيء، يا من بقدرتك جعلتني نائباً وبقدرتك جعلتني وزيراً، احفظني من دعاوى الموظفين الذين خربت بيوتهم ونسقتهم من وظائفهم، واغفر لي كل ما عملته في الوزارة» «المضحك المبكي العدد 226 تاريخ 29 أيلول 1934» في حين نشرت «المضحك المبكي» على غلاف عددها رقم 169 تاريخ 13 أيار 1933، رسماً كاريكاتيرياً للشعباني وهو يلقي البيان الوزاري قائلاً: «أبشروا يا إخوان لأن الوحدة تمت، فأنا راض فيها، وحقي بك راض، وجنبرت راض والأطة لي كمان راض، بس ما بقي غير بونسو».

الجوخدار والأطة لي
الجوخدار هو سليمان بن محمد بن سليمان الجوخدار، عالم بالقانون والعلوم الإسلامية. دمشقي المولد والوفاة قرأ على مشايخها وانتخب نائباً عنها في مجلس «المبعوثان» العثماني (1908) ثم كان مفتياً عاماً بها فقاضياً للمدينة المنورة، فمدرساً للقانون في معهد الحقوق بدمشق. وتقلد وزارة العدل (1933- 1934) وعمل محامياً. وصنف كتاب «الحقوق المدنية» من دروسه، وكتاباً في «أحكام الأراضي».
والأطة لي هو محمد يحيى الأطة لي (وكان يلقب بالحاج محمد)، من مدينة أنطاكية كان نائباً في المجلس النيابي لعدة دورات «1928- 1932- 1936» كما كان وزيراً للزراعة والتجارة في حكومة حقي العظم عام 1933م، وحكومة الشيخ تاج الدين الحسني عام 1934م.
يبدو أنه في عام 1933 كان هنالك مشروع تفاهم بين الوطنيين وتوحيد صفوفهم في وجه الانتداب الفرنسي، وهذا لم يرق لبعضهم لأنه قد يقضي على مصالحهم، فظهر العدد رقم 172 تاريخ 10 حزيران 1933 من «المضحك المبكي» وعلى غلافه صورة الوزير وهو يقوم بحفر حفرة بمساعدة أحد العمال ويقف بينهما الوزير الثاني والتعليق يقول: «الحاج محمد: عم نحفر يا أستاذ لسياسة التفاهم حتى ندفنها، الجوخدار: غمقولها بحياتكم.. لأنها إذا رجعت عاشت، ما بيعود بيبقالنا دور».
هكذا كان فن الكاريكاتير في صحافتنا أيام زمان يلعب دور الناقد ويسلط الضوء على أخطاء الساسة والسياسة وينقل لسان حال المواطن بأسلوب بسيط ومعبر. ويشد انتباه القارئ من النظرة الأولى للصحيفة أو المجلة.. فهل يعود هذا الفن إلى صحافتنا ليلعب دوره.. ولا ننسى ما قيل: إن الصورة تعبر عن حدث قد يعادل عشرة آلاف كلمة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن