قضايا وآراء

المشكلة هي مع الـ185 ألف كم2!!

| عبد المنعم علي عيسى 

تبدو المناخات الإقليمية والدولية وكأنها تستكمل شروطها الموضوعية لإطلاق عملية التسوية السورية، ومن الملاحظ أن الصراع الدائر قد سجل خلال الأسابيع القليلة الماضية حالة تهاد للأعمال العسكرية بالتزامن مع نشاط واضح لقنوات السياسة بل زواريبها أيضاً وهو مؤشر على وجود سعي خارجي للتأقلم مع المعطيات الداخلية التي أفرزتها الأحداث بدرجة ما تسمح بإعطاء شارة الانطلاق.
انحسار حيز الفعل العسكري في الأزمة السورية لمصلحة نظيره أو الصورة الأخرى منه (الحيز السياسي) بات أمراً ملازماً للحدث السوري وهو انحسار سوف تزداد تخومه ومداه على الأرجح في المرحلة المقبلة قياساً إلى حالة تبدل قصوى في الخطاب السياسي والإعلامي الغربي ومن الملاحظ أن النسخة الجديدة من ذينك الخطابين ينحسر فيها النفس الداعم للمعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري لمصلحة خطاب الحرب على الإرهاب وضرورة رص الصفوف لهزيمته الأمر الذي يشكل أرضية خصبة لانطلاقة جنيف4 التي يتوقع أن تكون يوم 23/2/2017 لكن من دون أن يعني ذلك خلو الطريق من الألغام والمطبات التي سيحرص العديدون على زرعها ولذا فإن من الواجب أن يهيئ السوريون أنفسهم لمرحلة مديدة قد تستمر لسنوات لكي يخرج بعدها جنين سلمهم وسلامهم من (حاضنة الخدج) في العاصمة السويسرية.
وفي أتون هذه المناخات برز إلى الواجهة مؤخراً حدثان على درجة عالية من الأهمية الأول: تعالي الصراخ التركي القديم والمتجدد لقيام منطقة آمنة في الداخل السوري إلا أن هذا الصراخ بات مدعاة لحالة قلق قصوى قياساً إلى المعطيات القائمة الآن، فهو يأتي في ظل حالة تقارب روسي أميركي قد تزول معها خطوط اللعبة في نسختها السابقة وكذلك يأتي في ظل تقارب أميركي تركي عبر عنه إبراهيم كالين الناطق باسم الرئاسة التركية 10/2/2017 حين قال إن الرئيس الأمريكي قد أبدى تفهمه تماماً لمطلب أنقرة بقيام منطقة آمنة داخل الأراضي السورية في خلال الاتصال الهاتفي الذي أجراه مع أردوغان مساء 9/2/2017 بعيداً عن معوقات الفكرة الميدانية واللوجستية وكذا الشكوك التي تحيط بالجدوى المتأتية منها في ظل صعوبة تأمينها من الهجمات، بعيداً عن كل ذلك فإن الأمر يحتاج إلى قرار دولي صادر عن مجلس الأمن والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا فوراً هو: هل حصلت أنقرة على ضوء أخضر روسي أو على وعد يؤكد لها أن مشروع القرار لن يصادف فيتو روسياً؟ وهذا السؤال يبدو مشروعاً الآن بغض النظر عن وقوف موسكو لست سنوات سابقة أمام طروحات من هذا النوع ومن أي صوب أتت إذ لا يعقل أن نرى هذا النفس التركي الحالي في ظل وجود «الدبوس» الروسي الذي يترصد البالون التركي، ولربما كانت حالة غياب هذا الأخير هي التي سمحت لأردوغان مؤخراً بأن يحدد ما يجوز (وما لا يجوز) لاحقاً كما فعل في 13/2 عندما قال: «إن من الضروري أن يكون الجيش السوري الحر هو الجيش الوطني في سورية» وهو تصريح بالغ الأهمية ومصدر خطورته هو أنه يتجاوز الإجماع الأوروبي الأخير الذي أقرّ بضرورة المحافظة على مركزية الأجهزة الأمنية والعسكرية في سورية وهو أمر لا يحصل إلا إذا كان الرئيس التركي يستند إلى «العضادتين» الروسية والأميركية في آن واحد.
الثاني: يتمثل باللقاء الذي حصل ما بين بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب في واشنطن وما رشح عنه في المؤتمر الصحفي الذي عقداه في ختام مباحثاتهما 15/2، فقد كان من الواضح أن ترامب يريد إشعال المنطقة برمتها ومن الواضح أيضاً أنه تحسب جيداً لجهة توفير الوقود اللازم لإطالة واستمرار الاحتراق بحسب الطلب وهو ما ظهر عبر الدعوة إلى إعادة فرز القوى الفاعلة في المنطقة ومن المؤكد أن هذا الفرز الأخير سوف يفضي إلى محورين اثنين في الأول منهما تقبع دول عربية نواتها الصلبة دول الخليج إلى جانب كل من تركيا وإسرائيل في مواجهة المحور السوري- الإيراني- حزب الله الذي دخل- كما يبدو- الحسابات الروسية بعد إعلان موسكو الأخير 15/2 بأن الحزب يلعب دوراً مهماً في الحرب على الإرهاب، وعلى الفور كانت البيادق حاضرة في التنفيذ ومن المرجح أن جولة أردوغان الخليجية 12- 16/2 كانت في صلب رسم التراصفات الجديدة وفيها حرص هذا الأخير على أن يكون القائم بإطلاق الرصاصة الأولى وهو ما ظهر في التصويب على إيران من العاصمة البحرينية فالتصويب على طهران من المنامة له نكهة أخرى وخصوصية محدّده لا تشبهها النكهات التي يمكن أن تنجم عن التصويب عليها من الدوحة أو الكويت أو الرياض.
في المؤتمر الصحفي السابق الذكر تماهى التوافق الأميركي- الإسرائيلي كما لم يكن في يوم من الأيام (وهو ما دفع تل أبيب مؤخراً إلى الطلب من واشنطن الاعتراف بضم الجولان السوري 17/2) ونقاط التماهي كانت أكثر من أن تحصى فترامب ارتأى أن اتفاق فيينا هو أسوأ الاتفاقات التي رآها كما أعلن عن موافقته على دفن حلّ الدولتين ولربما ستلوح في الذهنية الإسرائيلية لاحقاً وجوب قطف ثمار «الربيع العربي» التي حان قطفها وهو ما سيبرز عبر رزمة من الممارسات السياسية التي قد تنتهجها تل أبيب على الرغم من وجود كم كبير من القلق تبديه هذي الأخيرة جراء صمود نظام دمشق وكذا قدرته في الثبات على ثوابته رغم الضرائب الباهظة لذلك الثبوت فالرباط مع فلسطين ومع القدس لم يضعف ولم يهن بل من الجائز القول إن موقع القلعة الدمشقية قد ازداد رسوخاً رغم الجراح وهي ظلت الجدار الحصين الذي يمكن أن يتكئ عليه حتى الخطاؤون ولربما كان هذا الجدار هو مصدر التحولات المهمة التي تشهدها حركة حماس والتي يختصرها صعود الثلاثي القيادي في غزة (يحيى السنوار- خليل الحيّة- روحي مشتهى) وجميعهم من مناهضي أوسلو ومن ألد أعداء خالد مشعل ونهجه تجاه دمشق كما يختصرها تصريح محمود الزهار 15/2 القيادي في حماس الذي قال بوجوب إعادة العلاقة مع دمشق وهو تصريح يحمل في ثناياه إمكان الذهاب إلى حدّ الإطاحة بمشعل وتقديمه قرباناً لعودة تلك العلاقة ناهيك عن كونه مؤشراً على مرور الحركة بمخاضات كبرى فرضت إعادة تقييم السياسات السابقة وما الذي أفضت إليه، وهو أقل ما يمكن أن تذهب إليه حماس في ظل المخاطر المحدقة بها وبفلسطين فدفن حل الدولتين يعني تلقائياً تحول السلطة الفلسطينية بكامل مؤسساتها إلى مفرزة أمنية متقدمة للحاجز الإسرائيلي المقام على الحدود مع رام اللـه وما يؤكد هذا الأمر هو أن أولى الزيارات التي خصّت بها إدارة ترامب السلطة الفلسطينية كانت ذات طابع أمني وليس سياسياً وهو ما يعني حكماً تدهوراً أو انخفاضاً في مستوى العلاقة القائم ما بين واشنطن وبين هذي الأخيرة حيث ستؤكد زيارة مايك بومبيو (مدير CIA) إلى رام اللـه 15/2 أن الكلام الآن هو لأحاديث الأمن وشجونه لا لأحاديث السياسة التي أقفلت حتى زواريبها بعد لقاء واشنطن سابق الذكر.
كان اختيار نتنياهو للقائه الأول مع ترامب للإعلان عن وجود علاقة قديمة ومتجذرة مع دول عربية عديدة (خليجية تحديداً) يؤكد وجود قرار بإنشاء جناح شرق أوسطي لحلف الناتو بعد موافقة مكوناته العربية على أن يكون مركز القيادة في ذاك الجناح هو في تل أبيب وعليه فإن العناوين المفترضة للمرحلة المقبلة تتمحور حول المزيد من التطرف بشقيه السياسي والديني والمزيد من التصعيد كوسيلة لمواجهة المخاطر المتأتية من إنشاء محور عربي متحالف مع تل أبيب وكذا من القرار الأميركي بنقل السفارة الأميركية إلى القدس بعدما استكمل الحدث شروطه الموضوعية فقد قالت لجنة القدس أواخر العام 2016 أنه قد جرى تهويد 87% من المدينة ولم يبق سوى 13% منها في أيدي العرب، جرى ذلك بينما الرياض لا تزال ترى أن المشكلة القائمة هي مع السوريين المؤمنين بـ/185/ ألف كم2.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن