ثقافة وفن

بعيداً عن الشفقة والبكاء والفرح

| إسماعيل مروة 

يستدرّ الشفقة ذلك الشخص الذي يظن نفسه مالكاً ما حوله، ذلك المسؤول الذي تقلب في مناصب عديدة، وصدّق نفسه بأنه يمتلك ما لا يمتلكه سواه، وبأن الأرض تطوى بين يديه، فيتعامل مع من حوله على أنهم مجرد مرتزقة، وبأن أثمانهم معروفة، ببعض فتات يمكن أن يقتنع أحدهم، وبهذه الفتات استطاع أن يهيمن، وينسى هذا المسؤول الذي تربع على مكان قد لا يكون أهلاً له، أنه عليه أن يعمل ليكون جديراً، وعليه أن يحب ليصبح مقبولاً، وأن يتغاضى ليصبح كبيراً، ويرتقي إلى مستوى الرائد الذي لا يكذب أهله ولا ينكره أهله! ينسى هذا أن وجوده في هذا المكان مؤقت، وقلما سمعت من أحدهم حديثاً عنه أنه مؤقت، وبعضهم أصدقاء، وهذه القلة التي تعرف أنها تعبر عبوراً تشيع في النفس أملاً بسيطاً، فالباقي هو الوطن، والباقي هو ما يتركه هذا أو ذاك، من العمل من أجل من وضع من أجل خدمتهم وأداء واجباتهم… فما من موقع مهما كان يكن لذاته، وإنما هو للناس وأداء حاجاتهم، وما من موقع له تبعية لفلان أو فلان، وإنما التبعية للمعنيين به من عامة الناس… فإن أخلص أحدنا من أجل شخص، أو قاتل وخاصم من أجل شخص، فإنه سينتهي مع انتهاء مفعول هذا الذي ارتبط به، وما من أحد يقدر على أن يحمل نفسه وحدها، فما بالنا بالآخرين؟!
ويستحق البكاء آخر ليس لمكانه أي صفة من المسؤولية، فهو خدمي بحت ابتداء من المختار إلى رئيس البلدية، وصولاً إلى رؤساء النقابات المهنية، مهما تعددت أسماؤها، ومهما كانت النظرة إلى القيمة الفكرية والثقافية، فهؤلاء وجدوا لخدمة القطاعات التي صاروا رؤساء لها، وميزتهم الوحيدة أن طبيعة هذه المؤسسات تعطيهم ميزات بسيطة، يقومون بتوسعتها باستمرار للوصول إلى مستوى النخبة من المسؤولين، وأحياناً يتطاولون على المسؤولين عنهم، ظناً منهم أن الانتماء الأيديولوجي يمنحهم ذلك.. فالمشرف على الطلائع ليس مسؤولاً، وإنما مشرف وواضع برامج، والمشرف على الشبيبة، والمشرف على الطلبة، والمشرف على الكتّاب، والمشرف على الفلاحين، والمشرف على العمال، وهذا وإن اتشح بسيارة سوداء، وأحاطتها نوافذ قاتمة اللون، فإنه يرتفع أكثر بقدر ما يلتصق بالقطاع الذي يشرف عليه، وبقدر ما يكون واحداً من هذا القطاع، ولكن الأغلبية العظمى من هؤلاء الأفاضل يضعون مهامهم الخدمية في مصاف المواقع السياسية المسؤولة، فيغلقون الأبواب، ويدخلون بحذر، ويخرجون بحذر، ويتعاملون بفوقية، علماً أن واحدهم لو عاد إلى طبيعة الأدلجة التي تحكم سورية فسيجد أن هذه المنظمات أنشئت لبناء مجتمع اشتراكي متعاون، ولتحقيق مكاسب لأبناء القطاعات المختلفة، مثل وجود نسبة للعمال والفلاحين في عضوية المجالس المتعددة، وأعلاها مجلس الشعب، فكيف تغيرت المهام، وصار كل واحد منهم مسؤولاً؟ بل صار يتحكم في القطاع لوصول النسبة ممن يريد هو؟ أو هكذا يتهيأ له ويتخيل.
ويثير كوامن الألم ذلك الذي يحمل صفة من صفات الإبداع والتميز والثقافة، سواء كانت هذه الصفة حقيقية أو وهمية، وفي كل مناسبة ينتقد كل شيء، لا يرضى عن شيء، ويتعامل مع ما يحيط به بثورية، وما إن يصبح في طبقة المسؤولين حتى يتغير كل شيء، أول ما يفعله إغلاق ما حوله من محيط، ومن ثم نسيان كل ما كان قد أعلن رفضه له، فكل الأملاك له، وكل الحسان ضمن ممتلكاته، وكل… وكل… ويرتفع صوته لأقل كلمة، ويضع نفسه في مكان الربوبية المطلقة التي لا يأتيها الخطأ من بين يديها أو من خلفها!
أما ما يبكي ويؤلم فما نراه من أننا بعد سنوات ست، وتدخل السابعة لتصبح سبعاً عجافاً بعد كل هذا نرى تكالباً على الإيذاء لا الحب، وعلى الاقتناص لا المنح، وعلى الأخذ لا العطاء، وعلى الكره والخلاف لا التوحد، وأنا أتحدث هنا عن الذين اختاروا البقاء داخل سورية ولم يبرحوها، المفترض أن يكونوا على قلب واحد، وبعد ست من الجمرات القاسية المشتعلة ارتفعت حدة الخلاف، وزادت نسبة الاستئثار، وارتفعت وتيرة الإلغاء، وصار مستوى التقوقع بكل مداراته أعلى بكثير مما يمكن أن يحتمله وطن وقت الرخاء، فما بالنا به وهو مأزوم ينتظر أن نعالجه ونعمل على تضميد جراحه؟! الانتماء إلى العشيرة والقبيلة صار في أوجه، والاعتداد بالمذهب والطائفة أخذ حده! والولاء الفرعي صار أصلاً! وأنا أستغربه هنا ليس على المستوى العام، بل أستغربه وأرفضه على مستوى من يدعون الثقافة، والذين يتبجحون بالمعرفية، بل ويتنطعون ويشرئبون للمواقع التي يرون أنفسهم جديرين بها، ولا تراهم هي! ولكنهم قد يصلون وتخفق نظرة المواقع التي لا تملك شروى نقير أمام إصرارهم على الوصول ضمن الحسابات الضيقة، وما دام أحدهم قد أعطى ولاءه لغير وجه الوطن وسورية.
ويستحق منا غير ذلك كله هذا الوطن الجميل والعظيم، الوطن الذي طمع بحسنه الأغراب، وأرادوه في جب لا يخرج منه، الوطن الذي لا يشبه غيره، الوطن الذي لم يكترث لاحترابنا، فأعطانا مطراً وخيراً وحباً، وأغدق علينا فواكه وخيرات، أعطانا على مدار الفصول الأربعة، وفي ست سنوات من الاحتراب والاقتتال، وحده هذا الوطن هو الذي لم يغير عطاءه وبقي يجود بخيرات أرضه وشجره، وحده الذي فَتَل سواعد البسطاء غير المثقفين، وغير المؤدلجين منه ليستمروا في العمل والبناء، إنهم البسطاء الذين لا يعرفون حزباً ولا عشيرة ولا طائفة ولا مذهباً، وقد تنكرهم كل هذه الجهات لبساطتهم، هم الذين عرفوا الانتماء للأرض والوطن، فقدموا ما لديهم من دون أن يسألوا عن شيء إلا العمل!
هم الذين يلهجون مع خيوط الفجر الأولى بعبارات (الله يخلّص الحالة) (الفرج يا رب) وما شابه، لكنهم يعرفون الله الحق كما خلقهم، ويبنون علاقاتهم معه على مستوى عالٍ من الفهم يعجز عنها أرباب الشعائر الدينية، فهم مختلفون، إيمانهم تصديق عجائز، وإلههم رحمة لا تعرف النقصان، وحدهم هؤلاء البسطاء لا يرون إلهاً متجهماً، ولا إلهاً مكافئاً، يؤمنون لأنهم مؤمنون، لا لأنهم يشرفون على مؤسسات لاهوتية، وجودهم فيها أهم من رؤية حقيقة الألوهة.
أرأينا ما فعلت الست العجاف؟
نختلف في حقيقة الإله، ونحن ندعي التدين!
نختلف في مسلمات الوطن وندعي الوطنية!
نلغي شريكنا في الوطن، وندعو علناً للشراكة!
نرى أنفسنا على صواب والآخر على خطأ!
نقبل أن يشتم الإله ولا نقبل أن ينتقد أداؤنا!
نقبل بل نسعى أن يستباح الوطن، وأن تبقى أرصدتنا!
ننتهك كل شيء ونلبس ثوب الطهر!
نخون حتى العظم ونتحدث في الانتماء!
إن البحث عن الخلود كالبحث عن الحقيقة لا يدركه إلا محب، ينتقل من حب إلى حب، ومن ذاكرة إلى ذاكرة، ومن عقل إلى عقل ليصبح باقياً وحقيقة، ومهما حاولنا أن نبحث في غير الحب فسيأتي جيل يجعل من أرواحنا مواقع جديدة للرجم!
خلودنا وبقاؤنا يكون بالذوبان في حرف أو حرفة أو أرض أو نقطة عرق لنعود إلى التراب الذي نزعم أننا منه جئنا، إلا إذا كان زعمنا لإيهام الآخر!
إن صدقنا الزعم فالبقاء في ذرات التراب، وفي نقط ثلاث تظلل الشام وتصنع عباءة وحامية، فلندخل في ملكوت عباءة الوطن، ولنفعل ما يريده لا ما نريد، عندها ندرك البقاء، فالأوطان وحدها باقية خالدة، ونحن راحلون، فلنرحل إليها لا عنها… ولنبتعد عن الشفقة والبكاء والسخط.. وعن الفرح الوهمي كذلك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن