قضايا وآراء

جنيف الـ«هادئ»

| مازن بلال 

كل الخلافات التي سبقت جنيف والجدل حول طبيعة الدعوات لم تؤثر في ترتيبات انعقاد جولة التفاوض الجديدة، فمسألة التمثيل في العملية التفاوضية لا يمكن حسمها نظراً لطبيعة العملية السياسية، فهي تعكس ميزاناً دولياً أو إقليمياً ولا يرتبط بالبنية السياسية الداخلية، واللافت أن افتتاح جلسات التفاوض كان أكثر هدوءاً من المعتاد، فرغم التصريحات المتتالية لـ«وفد الهيئة العليا للتفاوض» إلا أن الجميع كان موجوداً، ولم نشهد انسحابات مبكرة كما حصل في الجولات الماضية، فـ«الهدوء» السياسي يعكس تحضيراً لمرحلة مغايرة لكل ما شهدته جنيف سابقاً، والمسار السياسي يمكن أن يضع ملامح مختلفة ولكنها في الوقت نفسه هشة لأبعد الحدود.
التفاوض الحالي يشهد «جمهرة» قادمة من الرياض، وهذا الأمر أثار اعتراضات كثيرة، لكنه لا يقدم سوى صورة إعلامية متكررة، وعدم وضوح التوازنات السياسية عند البعض دفعهم للبحث عن تنسيق مع هذه «الجمهرة»، حيث سعت «منصة القاهرة» لإيجاد توافقات من أجل الوفد المشترك عبر اجتماعها مع وفد «الهيئة العليا»، ويبدو أن المساحة السياسية داخل جنيف الحالي تحمل عاملين جديدين:
– الأول هو أن التمثيل الحاصل في التفاوض خرج من إطار فكرة كسر احتكار «وفد الرياض»، ويذهب باتجاه التعامل مع ضرورة التوافق السياسي الذي يستطيع تأمين توازن؛ يضمن ما تريده موسكو تحديداً من تثبيت لوقف إطلاق النار.
عملياً فإن «الجمهرة» القادمة من الرياض لا تؤثر في طبيعة الحلول المتاحة، فالتعامل مع المنصات اليوم ينطلق من أنها «مبادرات» وليست تمثيلاً فعلياً للشارع السوري، ومعظمها نتج عن اجتماعات في عواصم لإطلاق توجهات الحل السياسي، وللتعبير عن دعم دولي وإقليمي لهذه المبادرات، في حين فشلت معظم المؤتمرات في إنتاج «كتل سياسية صلبة»، والحضور في جنيف اليوم هو لضبط التوازن بين هذه المجموعات وما تقدمه من تصورات أكثر من كونه إنتاجاً لتوافق سياسي داخلي.
– الثاني إتاحة المرونة في التفسيرات للقرار 2254 من دون أن يعني ذلك اعتماد أي منها، فالمهم بالنسبة للمبعوث الدولي أن يتم النقاش في هذه التفسيرات بين الموجودين في جنيف لكسر المخاوف المتبادلة من بنود القرار.
كانت مسألة التصلب في تفسير القرارات الدولية تعبر عن سيناريوهات لم تعد ممكنة اليوم، وأصبحت بعض التفاصيل الموجودة على الأرض، مثل طروحات المناطق الآمنة، أهم بكثير مما أطلق عليه «الحكم الانتقالي»، فالمأزق الحالي داخل جنيف يظهر في قدرة المسار السياسي على استيعاب الحالات المستجدة، وهو ما دفع إلى القبول بـ«جمهرة» وفد «الهيئة العليا» الذي لا يملك تحكماً بالتفاصيل الناشئة.
جنيف الـ«هادئ» ينقل مشهداً لتشابك دولي وإقليمي أصبح من المستحيل تفكيكه، والعمل القائم حالياً هو التأقلم مع الواقع ودفع المسار السياسي لاستيعاب هذا التداخل، فالحاضرون في جنيف يدركون تماماً أن رؤيتهم للحل لا بد أن تمر على كل المساحات التي يغطيها الإرهاب، وعلى الجغرافية المعقدة «شرقي الفرات» وأخيراً على المحاولات التي يقوم بها البعض لخلق «نفوذ إقليمي» سواء في الباب أو حوران، وجميع المنصات مهتمة اليوم بالشكل السياسي لسورية؛ في حين الهامش الذي يحاصر الحل السياسي لا يبدو حاضراً في جنيف لأن موقعه «الإستانه»، وهو ما أكده المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، محاولاً رمي التعقيدات الجديدة باتجاه ملعب إقليمي مختلف.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن