ثقافة وفن

المعلم… قديس ورسول

| إسماعيل مروة 

في حديث للمبدع السوري المعلّم مصطفى العقاد استرعى انتباهي تصريحه الدّال على براعته وقدرته، إذ قال: «لم يكن عمر المختار معلماً، وإنما كان رجل ثورة، ولكنني من معرفتي بالغرب، أعرف أنهم ينظرون إلى المعلم نظرة خاصة، فيها من الإجلال ما فيها، بغض النظر عن المادة التي يعلمها، لذلك اخترت أن يكون المشهد الافتتاحي الدّال في الفيلم يقدم عمر المختار معلماً لأكسب تعاطف المشاهد الغربي معه ومع قضيته» كذلك قال العقاد، وأزعم أن عدداً كبيراً من المشاهدين العرب لا يعرفون هذه الحقيقة، ولكن ما أراه أنّ العقاد كان بارعاً في خياره، ووصل إلى النتائج التي أرادها من هذا المشهد الذي قلّ نظيره في تعليم اللغة العربية والقرآن الكريم.
المعلم لبّ الحياة عند الغربيين، يجلّونه ويحترمونه، ويتعاطفون معه ومع قضاياه،وإن كانت ناقدة لهم، ومعبرة عن غير ما يخدم رؤاهم، والمعلم كما توضح الأدبيات غاية النبل والاحترام، وإن كان المعلم في وضع سليم خرّج جيلاً سليماً.
نسمع كثيراً من الأسنّ منا عن التوقير والإجلال للمعلم، ونسمع عن الخوف المبالغ فيه منه، فهذا كان يغيّر طريقه حتى لا يراه المعلم، وذاك لا يمر في الساحة أو الجادة التي يتوقع أن يكون المعلم فيها، أو حتى تلك التي له فيها معارف يخبرونه بما قام به الطالب… بل ذهب القول لدى كثيرين طابعاً مبالغاً، فأحدهم لم يكن يتوقع أن المعلم يأكل ويشرب، أو له زوجة وأولاد! إن هذه النظرة من التقدير الذي يقترب من التقديس نظرة حقيقية، ولكن ليس خوفاً كما نظن، بل ينبع من المكانة التي تحلى بها المعلم، والمكانة التي وضعه فيها المجتمع.. فنحن كنا أمام معلمين نادرين، لا هوايات خارجة عن الأطر والقيم لديهم، وأمام مجتمع قدّر المعلم حقّ قدره، فالعائد المادي والمرتب للمعلم كان يكفيه وحده، ولم يكن مضطراً لعمل آخر، مهما سما هذا العمل، فإنه سيأخذ من مهابته ووقته للتحضير والتجهيز للطلبة، وشيئاً فشيئاً بدأ الأمر بالتغيّر، وما كنا نراه في الدراما المصرية وفي السينما، وكنا نستهجنه صار أمراً عادياً لدينا، وصرنا نقابل المعلم السائق، والمعلم الخضري، والمعلم الحلاق، والمعلم البائع المتجول!! ومهما كان لدينا من قيم تحترم العمل وتقدره، إلا أننا لسنا قادرين على تخيل هذا الصنف من المعلمين الذين دعتهم الحاجة لاختيار مهنة أخرى إضافية.
وعندما كنا طلاباً منذ المراحل الأولى كان معلمونا من الصنف المميز، وهذا دفعنا لأن نكون محترمين لهم مجلّين لأدوارهم، لم يفرضوا شيئاً، لم يطلبوا أمراً، وفي كل زمان يوجد الطالب المشاكس، لكنه لم يكن يقترب من المعلم وشخصه إلا نادراً، وإن حصل، فإن الطلبة يقفون مع الأستاذ لا مع زميلهم.. أذكر أساتذتي بالإجلال من المرحلة الابتدائية وإلى اليوم، أذكرهم بالاسم، وأتذكر مواصفاتهم وتعابيرهم، وقلّ أن مرّ بحياتي معلم لم أسعَ إلى بناء علاقة طيبة معه، فهو القدوة والرائد، وأكثر ما يحزنني أن يحدث أمر ينال من هيبة هذا المعلم أو ذاك، وأتمنى دوماً أن أكون أنا المخطئ، لأن رمزية المعلم أعلى من أي قيمة أو رمز في الحياة كلها.
يثير شيئاً من القرف والاشمئزاز ما يكتب أو يشخص عن المعلم، وخاصة عندما يقدّم بصورة ساخرة أو ينال من أخلاقياته المهنية، ولا يدري الكثيرون أن تقديم هذه الصورة يجعلها صورة نمطية، ويمكن أن تصبح نموذجاً معمماً، فالمعلم المرتشي ليس هو المعلم، بل الشخص الذي يحمل لوثة في ذاته، والفاسد واللاأخلاقي لا علاقة له بالتعليم، لأنه فاسد في تكوينه وليس في المهنة التي نكبت به، والدنيء بنفسه وروحه لا علاقة له بالمعلم والعلم، لأن هذه الصفات ليست صفات مهنية، بل هي شخصية، فالمعلم خلود للإنسان والعقل والمجتمع، وليس دقيقاً قول شوقي (كاد) بل المعلم رسول مكتمل الرسالة، يؤدي فوق أداء الرسالات، لأنه منزوع من صفة التقديس والتعظيم التي يحملها الرسل.. وإن كانت صورة شوقي فيها من التبجيل والتوقير ما فيها، فإن صورة إبراهيم طوقان الواقعية مؤلمة للغاية «إن المعلم لا يعيش طويلا» «يا من تريد الانتحار وجدته» «وأبيك لم أك بالعيون بخيلاً» مؤلمة وقاسية صورة طوقان، وخاصة إن علمنا أن طوقان توفي في الثلاثينيات من القرن العشرين، ومارس التعليم، وهذا يؤكد أن مكانة المعلم وتقديره لا علاقة للزمن بها، فمنذ ذلك الزمن وجد المعلم الجيد، ومنذ ذلك الزمن وجد الضعف لدى الطلبة، وليس الأمر جديداً كما قد يتوهم بعض التربويين اليوم، وإن كانت نسبة الطلبة المزعجة اليوم أكبر، فمردّ ذلك إلى العدد الهائل وزيادة السكان، وكذلك الأمر لشريحة المعلمين…!
إن عملية التعليم منذ القدم من أقسى المهن وأجلّها، فمن المفضّل إلى الكسائي والأصمعي، وإلى طه حسين ومازن المبارك ومحمود السيد، وإلى المعلم الذي لم يخلق إلى اليوم سلسلة من التعليم والتعلم، عليها تقوم الحياة، وبها تبدأ الحضارة وتنتهي، فمنير العجلاني المعلم الذي دفع تلميذه نزار قباني وقدّم له وهو يختلف معه، وأمجد الطرابلسي المعلم الذي سخر منه طلابه برسم كاريكاتيري وكان وزيراً فوافقهم واعتذر لتقصيره..!
إن أبرز شخصيات المجتمع اليوم، التي لها مكانة جاءت من التعليم، فرؤساء الجامعات معلمون قبل الموقع، وإخلاصهم لتعليمهم جعلهم موفقين، وكم من شخص نجح في حياته العامة لأنه كان معلماً، ويقدر الأمور حقّ قدرها، ويتعاطى بأخلاق العلم، فهذا موفق دعبول أصغر حاصل على شهادة دكتوراة في زمانه مضرب مثل في علمه واستقامته، وصلاح الأحمد بعد عقود من رحيله، علمه يبقيه، وذاك عبد الكريم الأشتر وعزيزة مريدن وواثق شهيد وشاكر الفحام وموفق مريدن وحسني سبح وبدر الدين القاسم ونعيم اليافي.. والعلم والتعليم أبقى من ابتعد عن التعليم حاضراً في أذهان الطلبة والمجتمع، فهذا محمد علي حمد الله وذاك رضوان الداية، وغيرهم وغيرهم…
التعليم والمعلم خلاصة من النبل، مهما كان التخصص، فكل طبيب معلم أكثر رحمة من الطبيب غير المعلم، وكل مهندس معلم أكثر إخلاصاً من المهندس غير المعلم، وكل فيلسوف معلم أعلى التزاماً من غير المعلم، فهذا نايف بللوز الحاضر بعد الغياب وعادل العوا وبديع الكسم وغانم هنا وطيب تيزيني… ومحمود فاخوري ومحيي الدين الدرويش وحسين خطاب، وقبلهم عبد القادر المبارك وجودت الهاشمي وظافر القاسمي ومحمد البزم.. ولست أدري إن كان المجال يتسع ليضم سيدة التاريخ الثقة ليلى الصباغ التي ما قرأت التاريخ على مثلها إنصافاً وحزماً، وهاني المبارك الذي كان تاريخاً يتحرك وعاصم البيطار الذي أعطى النحو كما يتنفس- وكان نعم المعلم حتى رحيله عن دنيانا.
المعلم أيها السيد الذي لا يجارى
المعلم أيها النبراس العظيم الذي لا ينال منك شيء
المعلم الخالد دوماً
الرسول وحامل الرسالة..
كل عام وأنت بخير

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن