ثقافة وفن

في بيان لألبير كامو ينشر لأول مرة … الصحفي الحر لا يكتب ما يحرض على الحقد والضغينة

| إعداد: مها محفوض محمد

العام 1939 وتحديداً في الخامس والعشرين من تشرين الثاني منه بعد اندلاع الحرب العالمية بفترة قصيرة كان يجب أن ينشر بيان لألبير كامو في صحيفة (soir replicoin) يدين التضليل الإعلامي الذي ساد فرنسا في ذلك العام ويدعو فيه الصحفيين أن يبقوا أحراراً وعشية تلك الليلة خط كامو سطور بيانه الذي يعكس صورة الصحافة في زمن الحرب مستهلاً بالقول: «صحفي فرنسي ولو أنه مستقل لا يسعه إلا أن يشعر بالخجل والعار.. إلى متى معركة الإعلام في فرنسا؟».

بيان محجوب
غير أن البيان لم ينشر أبداً بل تم حجبه من السلطات علماً أنه كان رئيس تحرير الصحيفة ومؤسسها في الجزائر المستعمرة لكنها كانت ككل صحف فرنسا خاضعة للرقابة وكان يومها كامو يناضل في الحزب الشيوعي من أجل المساواة في الحقوق بين العرب والأوروبيين قبل أن يطرد من الحزب وتصبح مواقفه مزعجة ويرفض فريق العمل الاطلاع على المقالات وتبتر الرقابة النصوص لدرجة أنه في كثير من الأحيان كانت تصدر الصحيفة بأعمدة بيضاء بعد شطب الرقابة محتواها، مقالات عن الظلم الفرنسي في الجزائر وتعليقات سياسية عن الحرب وأدواتها بعناوين مختلفة منها مثلاً: «تجار الموت» الذي حدد فيه مسؤولية صناع السلاح والمردود الاقتصادي الذي يكسبونه من الصراعات كما طالب بالتأميم الكامل لصناعة الأسلحة ولم ينس مصير الشعوب المحتلة في زمن الحرب مندداً بوحشية الحكومات التي تحتلها وعلى الرغم من تهديده بتعليق الصحيفة لم يرضخ كامو وبالتالي أوقفت الصحيفة عن الصدور في العام 1940 بأمر من الحاكم الفرنسي للجزائر وتحول إلى عاطل عن العمل ثم أبعد إلى فرنسا.
ألبير كامو المولود في الجزائر (1913-1960) لأب قتل بعد ولادته بعام وأم أمية تعمل خادمة جعل من الأدب إقرار التزام ووفاء للوسط الذي جاء منه بأن يكون شاهداً عليه فجاءت مسرحياته ورواياته ترجمة أمينة لفلسفته في الوجود والحب والموت والحرية وهو الفيلسوف والكاتب المسرحي والروائي صاحب «أسطورة سيزيف» و«الغريب» و«الإنسان المتمرد» الذي أحدث ضجة في الأوساط الثقافية والسياسية حيث التمرد بالنسبة له يقابل عبثية الوجود وكانت أول مسرحية له «التمرد في أستورياس»، أسس مسرح العمال عام 1935 ثم استماله الأديب باسكال بيا صديق أندريه مالرو للعمل الصحفي فأخذ يكتب في صحيفة (الجمهوري الجزائري) وفيها تناولت مقالاته حياة الفلاحين الصعبة وأنتج سلسلة من التحقيقات أحدثت ضجة كبيرة أشهرها كان «بؤس القبائل».

اهتمام نادر
البيان الذي بقي طي الكتمان ينشر اليوم لأول مرة استقطب اهتمام الصحافة الفرنسية وعلق عليه كثيرون منهم الكاتب والأستاذ الجامعي جان لويس بيير الذي قال: ننشر اليوم نصاً صادماً للفيلسوف الكبير حول استقلالية الصحافة، إنه تبر ويستحق أن يصبح كتاباً لأن النص الذي كتب في ذلك الوقت يصلح لكل زمان وخاصة في وقتنا الراهن وعندما نطلع على حدة الإدراك التي يبديها كامو (بعكس سارتر) فإن تدريس هذا النص ينصح به في جميع مدارس الصحافة لأنه مهم جداً كما يكشف لنا وجهاً غالباً كنا نجهله عن الكاتب الفيلسوف بأنه كان صحفياً ولدي قناعة أنه لا يجوز الخلط بين الكاتب وأعماله فهناك أعمال رائعة كتبها أشخاص لا يستحقون الاحترام لكن عند كامو نحب الشخص وعمله وفي هذا الزمن المضطرب الذي يسوده الكذب والتضليل كم نفتقر إلى شخصية مثالية كهذه نحن اليوم بحاجة إلى ألبير كامو إلى استقامته إلى نزاهته الفكرية وصرامته الأخلاقية، لقد حاول دائماً أن يطابق بين أفكاره وأفعاله الأمر الذي يبدو بسيطاً للبعض لكنه في الحقيقة صعب، هناك كم هائل من المقالات كتبها ما بين أعوام 1939-1958 كلها مخصصة للجزائر يقارع فيها الإرهاب الذي كان يمارسه الفرنسيون على الأرض الجزائرية ويدافع عنها بأفكاره النبيلة».
مؤسس مجلة نوفيل أوبسرفاتور جان دانييل والصديق الحميم لألبير كامو ممن بقوا على قيد الحياة يقول: «الصحافة بالنسبة لكامو لم تكن منفى بل كانت مملكة».

نص البيان (بإيجاز)
«من الصعب اليوم الحديث عن حرية الصحافة من دون المغالاة في اتهامك أن تكون ماتا هاري (أكبر جاسوسة في التاريخ الحديث) أو أن تجد نفسك ابن أخ ستالين، من المؤكد أن كل حرية لها حدودها وبصراحة يجب الاعتراف بهذه الحدود والعقبات التي أضيفت اليوم على حرية الفكر، لقد قلنا ما نستطيع قوله وسنقول أيضاً حتى نرهق السامعين بكل ما يمكننا قوله عما يفرضه مبدأ الرقابة واستهداف نشر النصوص في فرنسا لتصبح ممنوعة في بعض الصحف وواقع أن تتبع الصحيفة مزاج شخص أو كفاءته أفضل من مدى اللا وعي الذي توصلنا إليه. القضية اليوم في فرنسا لم تعد كيفية حماية حريات الصحافة بل البحث كيف تكون مواجهة قمع هذه الحريات والمشكلة تخص الفرد أكثر من الجماعة وما أريد التعريف به هنا مع ظروف الحرب وبشاعتها:
الوسائل التي تتيح لحرية الصحفي أن تبقى مصونة وهي أربع: الوضوح- الرفض- التعبير الساخر والإصرار.
– الوضوح يستلزم مقاومة النزوع إلى الحقد وفي عالمنا من المؤكد أنه يمكننا تجنب الحرب ذاتها لأنها من صنع الإنسان وفي كل الأوقات يمكن تلافيها أو إيقافها عبر وسائل إنسانية فالرؤية الواضحة للأمور تستبعد الحقد الأعمى واليأس الذي يدفع إليها، الصحفي الحر لا ييئس ويناضل من أجل ما يعتقده صحيحاً كما لو أنه يستطيع التأثير في مجرى الأحداث. الصحفي الحر لا ينشر شيئاً من شأنه أن يحرض على الحقد والضغينة أو يدفع إلى اليأس كل ذلك من سلطاته، وإزاء هذا المد من الحماقات لا بد من إبداء الرفض حتى لو مورست عليه ضغوط العالم يجب ألا تؤثر على عقل وفكر الصحفي الشريف وحسبنا أن نفهم آلية الإعلام فمن السهل التأكد من صدقية الخبر وإلى هذا على الصحفي الأخلاقي أن يولي كل اهتمامه لأنه إذا لم يستطع قول كل ما يفكر به فمن الممكن ألا يقول ما لا يفكر به أو ما يعتقده خطأ وبذلك فإن الصحيفة الحرة تقاس بما تقوله بمقدار الذي لا تقوله وهذه الحرية التي ترى سلبية من بعيد هي الأهم من كل شيء لأنها تهيئ لقدوم الحرية الحقيقة ومن ثم فإن الوسيلة الإعلامية المستقلة تقدم مصدر معلوماتها وتساعد الجمهور على تقييمها وترفض التضليل وتحذف الشتائم وباختصار تقدم الحقيقة ضمن معيار احترام عقل الإنسان بكل ما تستطيع معيار يجعلها ترفض تأثير أي قوة في العالم عليها بأن تقبل بث الأكاذيب.
أما السخرية فهي السلاح الذي لا مثيل له ضد القوى المتجبرة وضمن هذا المعنى تأتي متممة للرفض وقول ما هو صحيح غالباً فالحقيقة التي تعرض بلهجة حازمة تخضع للرقابة 9 مرات من عشر بينما التي تقدم بشكل ظريف ساخر لا تخضع سوى خمس مرات للرقابة فالصحفي الحر هو بالضرورة ساخر… ولا يمكن لهذا السلوك أن يثبت ويستمر من دون حد أدنى من الإصرار وصلابة الرأي أمام الكثير من العوائق والإصرار هنا ميزة أساسية لخدمة كل ما هو موضوعي، تلك هي المهام المتواضعة والطموحة للصحفي المستقل».
ويختم جان لويس بيير بالقول: «النص يصلح لواقعنا الراهن ويمكن أن يحل محل المطالعة المفضلة لكل الصحفيين ومديري الصحف الذين يطمحون إلى صيانة حرية الصحافة في زمن الحرب حيث يتم حبس الإعلام الصحيح».
ولا بد من القول: بيان كامو عن الصحافة المكتوبة ينطبق اليوم على وسائل الإعلام المرئية ولو كان حياً ماذا كان سيصدر إزاء هذا الضخ الهائل من التضليل الإعلامي؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن