ثقافة وفن

أدعية وعمائم وأوطان

| إسماعيل مروة

بالأمس، وفي عزاء قرّعنا الشيخ الجليل، وأظهر لنا حقيقة المأساة التي نعيشها في بلدنا، فهي كان من الممكن أن تنتهي منذ زمن بعيد، ولكن لم تنته لأننا لم نعمل كما يجب لتنتهي، استرعى انتباهي هذا الكلام، ووددت في تلك اللحظة لو اجتمع أولو الأمر في هذا العزاء المتواضع ليعرفوا الحل، ويعملوا عليه للانتهاء من الحرب والنزوح والتشرد والدم والقتل، رفع الشيخ مؤخرته عن الكرسي ليقول: إن الحرب مستمرة لأننا ابتعدنا عن الله! لأننا لا نجلس على ركبنا بين يديه لتدارس مجالس العلم!
وهذا الحديث يذكرني بما كان يحصل في عهود سابقة عندما كان المشايخ يدلفون إلى جلساتهم للدعاء، والعدو يسرح ويمرح ولا أحد يرده، ولم تجدِ معه كل الأدعية، وبقي يسرح ويمرح حتى جاء من أعد العدة والجند، واستطاع أن ينهي وجود المستعمر، ولم ينته ذلك حتى تكاتفت جهود مصر والشام، وحين تحررت البلدان كان المشايخ في أقبيتهم يمارسون الدعاء ولم يعرفوا بأن البلاد تحررت..!
وهب أن الدعاء يفعل دون عمل، فات شيخنا الجليل أن العدادات والمسابح التي تصنعها الصين الشعبية التي تقوم على الدعاء تجد طريقها إلى كل يد، بل إنني رأيت كما رأى غيري كثيراً من الناس يعدون تسابيحهم على الإله في الطريق وفي وسائل النقل، وبعضهم هو الذي يقود السيارة، إن كانت خاصة أو بالأجرة، بل وسائق الأجرة يتناول الأجر، وربما ظلم الراكب معه وهو يؤدي تسابيحه، ويمارس أدعيته! فالدعاء أولاً لم يفعل شيئاً فيما سبق، وثانياً يمارس من خلال شريحة كبيرة من الناس، والسؤال ألا يتقبل الله الدعاء إلا إذا جأر الناس كلهم دون استثناء واحد بالدعاء؟! وربما أراد السادة المشايخ أن يكون الأمر غير محصور بالإنسان، أما رأينا المشهد الذي تبادله مريدو أحد المشايخ العلماء، وهو يتحدث عن الحمار الذي كان يذهب به إلى مطحنة والده، وكيف أن هذا الحمار وقف يستمع إلى درس ديني مهم؟! «وهذا حديث للشيخ الراحل موجود على وسائل التواصل».
أما الأمر الثاني، فهو الذهاب إلى صلاة الفجر جماعة، ولم يجد الشيخ عذراً لأحد، لا لخائف ولا لمريض ولا لأعمى، فكل من يسمع المنادي عليه أن يلبي النداء، فما من عبث يقوم ذاك الشخص بالنداء للصلاة، وحاولت محاورة الشيخ فنالني نصيب من انتقاده لأنني لا أهرع إلى صلاة الفجر جماعة، مع أنه كما قال يرى ضوء غرفتي مناراً، فأنا مستيقظ ولا ألبي النداء، وهذا من وجهة نظره يضاعف من الذنب، ويجعل الحرب لا تنتهي، فحتى الأعمى، إذا استطاع أن يجد من يقوده إلى الصلاة في المسجد جماعة لا يعفى من الأمر وعليه أن يذهب، وإلا فلن تنتهي الحرب، ولن نتخلص مما نحن فيه من أزمات وقتل ودمار، هذا هو السبب الحقيقي للحرب واستمرارها.
والأمر الثالث هو حضور مجالس العلم مع العلماء، والعلماء هنا هم عدد كبير ممن أفرزتهم المعاهد الشرعية، وبعضهم يستحق الاحترام لأنه يؤمن بأنه طالب عالم، ولكن الأغلبية من هؤلاء الذين تخرجوا في المدارس الشرعية ومعاهدها انتقلوا من السنة الثانية التي قد تعادل الأول الثانوي للبس عمامة كبيرة، وفي كل عام تكبر هذه العمامة، وبعضهم يباهي بأنه يلبس عمامة مفتخرة بمادتها وشكلها، وقد تتفوق على عمامة سماحة المفتي العام للجمهورية، وأعتذر عن جهلي، فقد علمت مؤخراً أن هذه العمامات لا يجيد لفّها أي إنسان، فهي بحاجة لخبير يقوم بتوضيبها، وأجرته تكفي أسرة كاملة ليوم كامل على الأقل!
وأعتذر مرة أخرى لجهلي، فقد قرأت في الكتب بأن العمامات بلونها وعدد طبقاتها وحجمها وطاقيتها أو طربوشها ليست مسألة اعتباطية، فهي لها علاقة بالمكانة العلمية لصاحبها، وهناك- في الزمن القديم- من يراقبها، ولا يجوز لأحدهم أن يعتمر عمامة ليست مخصصة لمستواه، لكن يبدو أن أولئك جهلة، وأسأل: ألا يجتمع هؤلاء الخطباء بإشراف وزارة الأوقات؟ ألا يحضرون بهذه العمامات؟ أليس بإمكان الوزارة أن تراقبهم في مساجدهم لتتأكد من العمامة والدرجة العلمية؟
لكن أعفي الوزارة من هذه المهمة، وأسأل: هل سمعت الوزارة لغتهم؟ هل سمعت قراءتهم؟ هل ناقشت وعيهم؟ هل عرفت تنورهم؟ هل تعرف أن كثيرين لا يميزون لغة بين العاقل وغير العاقل؟ هل عرفت أن النسبة الغالبة لا تميز بين الفاعل والمفعول؟ هل عرفت أنهم يخطئون حتى في قراءة القرآن؟ يا أخي سامحناهم بكل هذا، ربما لم يكن من دواعي المشيخة، فالأهم أن نجلس بين أيديهم لنتعلم الوضوء وتوابعه، في وقت يقوم الدوش بالدور كاملاً سواء كان من صنع الصين أو سواها..!
أترك هذه الأمور كلها، وأقف عندما يهمني أنا، وهو الجانب الفكري، وخاصة أن مثلي لا يهرع للصلاة جماعة في الفجر، فلا يحق لي أن أتحدث إلا في الجانب الفكري، فهل عرف أولو الأمر أن كل الأحاديث هي أحاديث حاطب ليل، يضم فيها الصالح وغير الصالح، وربما ضمّ فيها الأفاعي والهوام والعقارب؟ هل عرفوا أن الأحاديث لا تعدو أن تكون منامات وأحاديث خرافة تعيدنا إلى حضن التوراة والإسرائيليات، ما رأيكم بأن الله يتدخل لينصر بدعاء؟ ما رأيكم بأن الله يوفي الدين بنفسه، ويقطع من بحر إلى محيط، وفي ألطف الأحوال من دجلة إلى الفرات لوفاء دين مؤمن؟
أفهم أن يخبرني الشيخ بأن الأمور قصاص، وأن يخبرني بأن الإنسان الذي يعزم على رد الحقوق لأصحابها يسهل له الله الأمور لردها، لكن أن يتدخل من أجل هذا الرد فهذا أمر فيه تقزيم للذات الإلهية! والأمر تماماً كما أشرت في مرات سابقة ينطبق على من يرى مهمة الله أن يؤمن لنا أطايب الطعام وأفخر النساء والحوريات والشراب!!
جلّ الله عن هذا، وهم الذين يؤكدون أن الله أعد، فهو يعد بنفسه ويشرف على ذلك! أليس من الأجدى أن نحدد مفهوم نظرتنا للذات الإلهية، وألا نقزمها بأدوار تجلّ عنها من أن نجلس ندعو؟! أليس الأجدى أن نؤهل ونتابع هؤلاء الذين تربعوا في مواقع الوعظ والإرشاد؟! يجلس أحدهم ليحذرنا من الاقتراب من مكانة العلماء الأجلاء، وهو بالطبع لا يقصد عالماً جليلاً سوى ذاته، وكل من يقترب هو كافر ويستهزئ من الله! لا يجوز أن تقول له: أخطأت في القراءة! ولا يجوز أن تقول له: إن دعاءك كان ارتجالاً وعلى مقاس المناسبة، وحسب غنى صاحبها! ولا يجوز لك أن تقول له: ما الإجازات التي أخذتها لتكبر بها عمامتك؟!
ولا يجوز لك إلا أن تجلس بين يديه تمارس الدعاء.
إن هذه الطبقة من الموظفين تسهم إسهاماً كبيراً في تجهيل الناس، وفي دفعهم إلى التعصب وإلى الإفتاء بما يجهلون، ومن أسف نجد أن المساحة الأفقية لهم تتسع على حساب العلم الحقيقي والحب الذي يزرعه المؤمنون المتنورون لا تجأروا بالدعاء.. لأن الله يعرف ما بك، وإلا كنت تنال من الذات الإلهية، وترى أنها تحتاج إلى صراخك، بل اهرع إلى علم الدنيا الذي يبني دنياك.
الأدعية لا تبني أوطاناً، والأمنيات لا تصنع مجداً ولا علماً..
ولكن.. أتوقف إذا كان أولوا الأمر يرون رأياً آخر..!
هل عرفنا معنى الحور العين ومصادره؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن