ثقافة وفن

د. عبد الإله نبهان… رحلة علم وتدريس وتحقيق

| د. راتب سكر

انبثقَ خبرُ رحيل أ. د. عبد الإله نبهان من فضاءٍ رماديٍّ مسيَّجٍ بأساه، يجرُّ عرباتٍ من الشعور بالخيباتِ والمرارةِ، في ثنيات تلالِ كثيرينَ، ما أنا إلا واحدٌ منهم.
لمْ يكُنِ الخبرُ مفرداً غريباً عن سِيَاقِه، فقدْ وصلَ في مواكبَ لائقَةٍ من تتالي طُقوسِ الرحيل، وانكساراتِ أحلامٍ ورُؤى، كانتْ ريَّانَةً بالمواعيد، وتتالتْ عليها ليالي أساها، فواجَهَتْ مصائِرَها راضيَةً مرضيَّةً، كما يليقُ بالعارفين المُحْتَسِبِين.

هي لحظاتُ تمهُّل، وإعادة قراءةِ الخَبَر: رحل عن دنيانا الفانية أ. د. عبد الإله نبهان، الضليعُ الخبيرُ في علوم اللغة العربيَّةِ، والمثقفُ الموسوعيُّ في عوالمِ الآدابِ، والمجتمعِ، والإنسانُ المرهفُ في بِناء الصداقاتِ الراسخَةِ المتنوِّعَةِ الواسعة الحميمة… رحل… هي لحظةٌ للشعورِ بانْكِسار ما هو راسخٌ وواسعٌ ومتنوعٌ وحميم، يشعر كلُّ من مسَّه نورُ قَبَسٍ ما من صداقاتِه تلك يوماً ما، بأنَّه معنيٌّ بقسوةِ مثلِ هذا الشعور، فالراحلُ كانَ سنداً لا يخيبُ قاصِدُهُ السائلُ عن مسائِلِ لغة، أو ثقافاتٍ دينِيَّةٍ أو دنيويَّةٍ، أو الناشدُ كتفاً يرمي عليها أثقالَ شعورٍ بالغربةِ والضعفِ، في وجُودٍ لم يزِدْهُ دولابُ الأيام إلا صَلَفاً وغروراً وتَغْريباً، فلا يبقى فيه لتعلل اليدِ العزلاءِ من أهل وسكن، سوى كتفِ صديقٍ قويِّ الحضور والثقةِ من طِرازِ أبي مُصْعَب.
في أواخر السبعينيَّاتِ من القرن العشرين، كان يتابع دراساته العليا في علوم اللغة العربية، معَ اهتمامٍ ملحوظٍ بموضوعاتِ الأدبِ: قديمه وحديثه، فقدَّم ضمنَ نشاطِ المركزِ الثقافيِّ في حماةَ محاضرةً عن أعلام في الشعرِ القديم، تقديماً أثار اهتمامَ طالبٍ في سنتِهِ الجامعيَّةِ الرابعةِ، كُنْتُهُ يوْمهَا، فكتَبْتُ مقالةً في صحيفة «الفداء»، عُنيَتْ بمناقشَةِ جوانبَ مِنْ تلكَ المحاضرَةِ، ممَّا استتْبَعَ حِواراً لاحِقاً حَوْلَهَا، عمَّقَ منْ تَعَارُفِنا الذي بدأَ منذُ أيام متابعتي الحميمة لنشاطاتِ الثقافةِ والأدبِ في حمصَ التي كانتْ تأخذ فيها تلك النشاطاتُ طوابعَ حميمةً خاصَّةً، متميِّزَةً سورية وعربياً.
ها نحن في مطلع التسعينيَّات نشاركُ في عضوية اللجنة الثقافية لكلية الآداب في جامعة البعث ونشاطاتها، مع زملاء كثيرين، ولاسيَّما زميلان صديقان استمرا شريكين في نشاطِنا الثقافيِّ والجامعيِّ إلى آخرِ مداه، هما د. رضوان القضماني، ود. سمير معلوف، وقد تنوعت مواقعنا الإدارية تباعا في كلية الآداب وقسم اللغة العربية فيها، بين عميد ونائب عميد، ورئيس قسم، وغيرها، نتعاون مع زملائنا الآخرين بحالة من حب ونقاء ووفاء، ونرحب بالأدباء والمثقفين وأساتذة الجامعات من سوريين وفلسطينيين ولبنانيين ومصريين وعراقيين وأردنيين وغيرهم، تستضيفهم الكلية في محاضراتها وندواتها ومؤتمراتها ومهرجاناتها المتلاحقة في الأزمنة المختلفة، ولاسيما زمن رئاسة صديقنا المشترك أ. د. ياسر حورية لجامعة البعث، ولرابطة الخريجين الجامعيين في حمص، برؤيته العميقةِ المتميزة التي تعدُّ النشاطَ العلمِيَّ والثقافِيَّ لكلِّ قسمٍ وكليَّةِ تكاملاً جوهريّاً معَ المناهجِ والخططِ الدراسيَّةِ.
نشاطاتٌ متنوعَّةٌ تعقبُها موائدُ متنوعَّةٌ تعزِّزُ أُلْفَتَنَا مع الضيوف، تقامُ تارةً بدعم من الجامعة أو الرابطة، وتارةً أخرى بتشارُكِنا مع أقرانِنا تشاركَ الأصدقاءِ والألَّاف، وضيوفُنا أصدقاء مثقفون بارزون من طراز وليد إخلاصي، ود. عمر الدقاق، ود. علي عقلة عرسان، وعادل أبو شنب وغيرهم.
لجأتُ إليه عام 1995م طالباً مشورته في ترتيب اقتراح الاحتفاء بمرور تسعمئة سنة على ولادة أسامة بن منقذ، الشاعر الفارس (1095- 1188م) الذي كان اهتمامنا به في تدريسنا الجامعي يأخذ اتجاهات لغوية وأدبية متنوعة، وبعد مداولات وسهرات بين حمص وحماة، شاركنا بها غير واحد من أصدقائنا الحميمين، ولاسيما الشاعران مظهر الحجي ووليد قنباز (1935- 2005م)، وسَرْعَانَ ما انطلق مهرجان أسامة بن منقذ بتبنٍّ حيوي من محافظة حماة، ومشاركات متنوعة واسعة لأدباء وباحثين بارزين من سورية ولبنان، من أبرزها وجدانياً مشاركة شعرية للشاعر ياسين فرجاني (1925- 2007م) الذي تحور حضوره إلى حماة التي كان محافظها (1959-1961م) المقرّب إلى الرئيس جمال عبد الناصر (1918-1970م) أيام الوحدة السورية- المصرية (1958-1961م)، إلى تظاهرة اجتماعية وثقافية من طراز خاص، استمر تتالي بريقها على مدارج السنين، فأصدرت جامعة البعث بعيد رحيله ديواناً له بعنوان: «ألوان»، من إعداد د. عبد الإله نبهان وتقديمه بدراسة جادة قيِّمة، تضمن عدداً من قصائد الشاعر غير المنشورة في كتبه السابقة.
كان تدريسي منذ عام 1991م للأدب القديم المنجز في ثمانية قرون تقريباً بين القرن السادسِ والقرْنِ الرابعَ عَشَرَ الهجريين، فضلاً عن مواد اختصاصي في الأدب العالمي والمقارن، يضعُني في محَطَّاتٍ تحتاجُ إلى مساعدات أصدقاء لهم خبرات تفوق خبراتي المتواضعة في دراسة الأدب القديم، وكان د. عبد الإله نبهان من أبرز أساتذتي الذين وجدت بهم معينا لا ينضبُ في مدِّي بالنصح والإرشاد والمصادر والمراجع، وهو الملاذُ الذي يسترُ عيوبي ويوجِّهني، حتى إذا انعقدَ المؤتمرُ العام لاتحاد الكتاب العرب عام 2010م، وأسفرَ عن وجودي عضواً في مكتبه التنفيذيِّ مكلَّفاً برئاسةِ تحرير مجلة «التراث العربي» الفصليَّةِ المحكمة (2010-2013م) شعرتُ أنني في المأزق الأهم، الذي خبَّأتِ الأيام مفتاحَ حلَّه في يدِ د. عبد الإله نبهان الأمينَةِ، وبعد تداولٍ مع صديقنا الحميمِ المشتركِ سميِّي محمد راتب الحلاق، اقترحتُ عليه أن يكون د. عبد الإله رئيس تحرير المجلة، وأحمل بدوري حقيبة مدير تحريرها، فتداول معه الأمر، لكنه قال: «هذه شكليات لم تكن على بساط تعاوننا يوماً»، وتشكلّت هيئة التحرير كما أراد من مجموعة من أكابر دارسي العربية وآدابها، وظَلَّ وجوده صمام أمان وعطاء ونجاح في إصدار نحو عشرين عدداً من أعدادها، تضَمَّنَ معظَمُها ملفاً نوعياً من ملفات الموضوعات المهمة في دراسة تراثنا، في مدة السنوات الثلاث، التي تنتهي بها مهمة عملنا في إدارة المجلة بحسب الأنظمة والقرارات الناظمة للعمل في تلك الأيام. وقد كان لحسن توجيهه وسداد رأيه وموقعه الوجداني من كثيرين – كنت وما أزال واحداً منهم- في مكانة الأستاذ، تأثير عميق في توجيه مسار المجلة وموضوعاتها وملفاتها وصلاتها بكتابها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن