قضايا وآراء

فن صناعة الأعداء!

| د. بسام أبو عبد الله

أثارت المقابلة التي أجريت مع الفنان السوري عباس النوري على إذاعة «المدينة إف إم» في برنامج المختار مع الإعلامي باسل محرز، ردود فعل غريبة عجيبة، بعضها ذهب على طريقة داعش نحو التكفير والإقصاء، وكم الأفواه، وكأن الأمر يحل عبر هجمات فيسبوكية، وتعليقات وصلت إلى حد طلب محاكمة الفنان على ما قاله داخل بلده، وعبر إذاعة محلية، وهذا بالطبع ما أثار دهشتي بطريقة دفعتني لطرح سؤال على نفسي: ألم نتعلم بعد؟ ألم نفهم بعد؟ ألم نقرأ بعمق حقيقة ما جرى في بلدنا من إعصار ضخم يفترض أنه قرع لنا جرس إنذار وأشعل ضوءاً أحمر لنعرف كيف نتعاطى بطريقة هادئة راقية، وبردود أفعال تقوم على الرد العلمي المحترم على ما نتفق عليه، وما نختلف عليه، وتحفظ كرامة من طرح الأفكار والآراء، وكرامة من لم تعجبه هذه الآراء، أو يختلف معها، وهنا مربط الفرس. فالطريقة التي تم التعاطي فيها مع هذه المقابلة الإذاعية هي طريقة غوغائية فيسبوكية، لا تنتج حلولاً، ولا تكسب أصدقاء، وطاردة حتى لأولئك الذين يحبون بلدهم، ويريدونه بأفضل حال، لأن الحوار الهادئ المتزن دائماً يوصل كل الأطراف لقواسم مشتركة، ويصحح الالتباسات، التي أنهكتنا وأتعبتنا، إذ إنني على قناعة تامة أن ما طرح في برنامج المختار هو آراء شخصية قابلة للنقاش والحوار، بكل احترام وتقدير، على الرغم من أنني هنا لا أتطرق للموضوع من باب انحياز شخصي لأن المقابلة في سورية وعبر إذاعة محلية، والسؤال هنا: إذا كنا غير قادرين على التعبير عن آرائنا في صحفنا، وإعلامنا الوطني، فأين سنكتب ونتحدث؟ وإذا الكتابة عبر وسائل التواصل الاجتماعي قد تعرضنا لقانون الجريمة الالكترونية، فأين المفر أيها السادة؟

لو جرت هذه المقابلة خارج سورية لاتهم الشخص بالعمالة والخيانة الوطنية، وهذا سؤال برسم الجميع، ماذا نحن فاعلون؟ وإلى أين سنذهب؟

الجانب الآخر أنني هنا لا أدافع عن الآراء التي طرحت، والتي أتفق مع بعضها، وأختلف كثيراً مع بعضها الآخر، ولكن أقول بوضوح شديد علينا أن نتحدث باحترام وتقدير بعضنا مع بعضٍ، سواء اتفقنا أو اختلفنا لأن هذا السلوك الحضاري سيجعلنا نلتقي في الكثير من النقاط، ونعالج سوياً ومعاً نقاط الاختلاف! ثم سأطرح سؤالاً أكبر: من قال إن حزب البعث العربي الاشتراكي خارج إطار النقد من قبل أي كان، ومن قال إنه ممنوع النقد وتناول الشأن العام داخل سورية؟ وهنا أتحدث كعضو في حزب البعث العربي الاشتراكي، ذلك أنني أعرف جيداً أن الحزب يعمل منذ سنوات على إعادة ترتيب بيته الداخلي، وعلى إعادة النظر في الكثير من قضاياه التنظيمية، وإعداد الكوادر على أسس علمية، وعلى تدريبها على الاستماع، واحترام الآخر، إذ إن نقد التجربة السياسية، وتصويبها جزء أساسي من التقدم نحو المستقبل لاكتشاف الأخطاء وإصلاحها، وتعزيز الإيجابيات، وبناء جيل جديد قادر على مواجهة تحديات المستقبل، وهذا جانب مهم، يتم العمل عليه بهدوء، وبنتائج مبشرة، ولكنه عمل صعب جداً لأنه يرتبط بالذهنية، وتغييرها، ذلك أن منهج تفكيرنا يحتاج لتغيير، أي بمعنى نحن بحاجة لأن نعتاد على رأي آخر ولو اختلف معنا، شرط أن يكون وطنياً ومن داخل بلدنا، وبهدف البناء، وليس تسجيل النقاط على بعضنا.

العمل على الذهنية يرتبط تماماً بالحالة التي أتحدث عنها، فالصحيح أن يرد مثقفو حزب البعث على ما طرح، ويبدون وجهة نظرهم فيما تم تناوله بطريقة حضارية، تليق بحزب عريق كحزب البعث، وليس من خلال صفحات فيسبوكية، لا تنتج إلا حالة استفزازية لا تقدم ولا تؤخر، بل تخلق واقعاً يدفع المتربصين بنا للدخول على الخط، وصب الزيت على النار لزيادة الاحتقان، والكراهية، والتفرقة، وتقديمنا على أننا مازلنا نكمم الأفواه، ونمنع الرأي الآخر، وكأن هؤلاء الذين يصبون الزيت على النار يعيشون في واحات الحرية النفطية والغازية.

الأهم أن خصومنا ينتظروننا عند كل مفترق، ويراقبون كل تفصيل في حياتنا ليستغلوه، كما فعلوا في بداية الحرب علينا حينما دفعوا بالاتجاه المذهبي الطائفي، ثم الإثني، ثم حقوق الإنسان والحريات، لكن جوهر المشكلة لدينا في القدرة المذهلة لدى البعض على «فن صناعة الأعداء»! فنحن دائماً بسوء التصرف والإدارة، وعدم الذكاء، وترك الأمور بيد من هبّ ودبّ نقع في المصيدة، ونبدأ في تحويل الأصدقاء إلى أعداء، إذ يجب ألا ننسى مثلاً أن روسيا هوجمت بشراسة في مرحلة ما، وتبعتها إيران كذلك بطريقة مستفزة، وغير علمية، وغير عاقلة، ليس لأن أصدقاءنا خارج إطار النقد أبداً، ولكن لأن النقد يجب أن يقوم على أسس علمية وموضوعية وليس عاطفية وشعبوية، لكسب اللايكات والإعجاب الوهمي، الذي لا يضيف للرصيد الوطني أي شيء، وأحياناً يعكس سوء فهم، وتقدير لعمق المسائل والأشياء المطروحة، وإذا كان الأمر في قضايا كهذه فهو كذلك، فما بالنا بالنسبة للقضايا التي طرحت في المقابلة المذكورة، التي يفترض أن يتم النقاش بها بهدوء ورقي واحترام، بغض النظر مرة أخرى عن المحتوى، والأفكار التي قد يكون بعضها صحيحاً ومحقاً، وبعضها الآخر ليس له أسانيد تاريخية، وعلمية، لكن لا شيء يمنع أبداً من مناقشة الكثير من القضايا التي قد يراها البعض «محرمات» ولكني لا أراها كذلك، ثم إن الأهم من كل ذلك أن نتخلص من العشوائية في الرد، وأن نتعامل باحترام، وأن تدار الأمور بذكاء وحنكة وهدوء.

يجب أن نعتاد ثقافة الحوار مع الآخر، والآخر بالطبع الذي يختلف معنا، وليس الذي يطبل ويزمر لنا، فالمنافقون والانتهازيون كثر كثر، أما الأصدقاء فهم الذين يصدقونك القول وينصحون، ويقدمون آراءهم بوضوح وجرأة، بغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف معها، وأنا أتحدث هنا عن تعزيز ثقافة الحوار، والرقي في تقبل الرأي الآخر، وعدم الانجرار وراء الشعبوية الرخيصة، التي لا تحقق أي نتائج مرجوة سوى الاستفزاز والغرائزية، والاستقطاب المدمر للجميع، ومراكمة الأعداء الذين للأسف يتقن البعض لدينا فن صناعتهم من حيث يدري أو لا يدري.

إذا كنا كبعثيين سوف نخاف من رأي يطرح علناً فهذا يعني أننا لسنا أقوياء، وإذا كان مقال سيهزنا فهذا دليل ضعف، وإذا كانت مقابلة من أي كان سوف تحبطنا فنحن لسنا في أحسن حال!

ما يجب أن نعمل عليه أيضاً الرد بالحجة والعلم والموضوعية ورحابة الصدر، وتقبل ما يطرح ما دام أنه يطرح داخل الوطن، وعبر وسائل إعلامه، وهذا الاتجاه هو الوحيد ليكون بيتنا هو المكان الطبيعي للنقاش في كل قضايانا، ذلك أن هذا الأمر يعزز الثقة بالنفس، ويقوينا، ويرشدنا إلى مسار صحيح، نحن بأمس الحاجة له، أما الطريقة التي اتبعت في معالجة مقابلة إذاعية مع فنان سوري فهي طريقة سهلة، لكنها رخيصة من ناحية، ولن تعزز إلا فن صناعة الأعداء، وتراكم خسائر مجانية لسنا بحاجة لها أبداً، ولا تعبر عن وطنية وانتماء، وإنما عن قلة تدبير وغباء مهما كانت دوافع هؤلاء نبيلة، فالمعارك الكبرى تحتاج إلى العقل والحكمة والذكاء، وإن أردتم الدهاء، وهي التي تحقق النتيجة التي نريد الوصول إليها.

أرجوكم توقفوا عن فن صناعة الأعداء، وتسليم الخصوم هدايا بالمجان.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن