ثقافة وفن

عجلة التطور في الحركة التشكيلية السورية تسير ببطء … طاهر البني لـ«الوطن»: استطاعت الحركة الفنية في سورية أن تنهض بأجنحة قوية

| سوسن صيداوي

لم يتمكن فنانو حلب من المشاركة في المعارض السنوية.. التي اقتصرت على نتاج المقيمين في دمشق والمدن الآمنة.
الحالة ليست عبثية ولا تأتي من فراغ ولا تمر مرور الكرام، ففي وجودها هناك أسباب وركائز تدفعها للوجود ومن ثم للاستمرار. وإلى اليوم حلب.. المدينة المعشّقة بعبق الحضارات المتعاقبة التي ستبقى حاضرة بما يدور بأماكنها من أزقة ومساجد وكنائس وقباب وقلاع وأسواق وتكايا وحمّامات وغيرها الكثير من التفاصيل التي خلبت عيون من جاؤوا إلى هذا العالم واختاروا مع ما قُدّر لهم، لا أن يكونوا أشخاصاً عاديين، بل اختاروا أن يكونوا نخبة من الرسامين التشكيليين، وانطلقوا إلى الحياة الحلبية متأملين جمال بنيانها وعماراتها في خطوطها وفي شبابيكها وأبوابها وحتى في لون حجارتها ونقوش خشبيّتها، تلك المشاهد وتلك الصور تفتّحت في وجدانهم وذاكرتهم لتكون موهبة تلفت الأنظار، وبالنسبة لهؤلاء الرواد لم تبق موهبتهم فطرية بل سعوا بكل جدّ وحماسة إلى المتابعة وصقل المقدرة سواء بالممارسة أم بالتعلّم، ومن الأسماء التي أنجبتها حلب الولادة:فتحي محمد وفاتح المدرس ورولان خوري ولؤي كيالي ووحيد مغاربة وسواهم من رواد الفن التشكيلي، الذين رفدوا الحركة التشكيلية السورية والعربية بإنجازاتهم الفنية المتميزة، واليوم ممن حضر معتنقاً الرسالة نفسها التي حملها أجداده من الفنانين التشكيليين وأضاف إليها الكثير خلال مسيرته الطويلة.. الفنان طاهر البني.

جانب من سيرة ذاتية

تمتد تجربة الفنان التشكيلي طاهر البنّي لأكثر من أربعة عقود، شارك خلالها بالعديد من المعارض الجماعية والفردية في العديد من المدن منها:دمشق وحلب وعمان وإستطنبول وأثينا، منذ ولادته في عام 1950، وحتى التحاقه بمعهد الفنون التشكيلية في عام 1967 وما بعدها من زمن، مرّت تجربة الفنان بخطيها المائي والزيتي بأربع مراحل، صُنّفت كل مرحلة باتجاه معيّن، بدءاً من الواقعية التسجيلية، مروراً بالتعبيرية، فالتكعيبية، وصولاً إلى التجريد الإيحائي. اغتنت تجربة طاهر البني بخبرات فنية وتقنية استقاها من شتى المدارس والاتجاهات مشكلاً حالة متفرّدة في المشهد التشكيلي السوري، وعلى الخصوص فاردة غزارة وتنوّعاً في حلب، والمشهد التشكيلي العربي. أقام الفنان معرضه الأول عام 1971 في صالة المتحف الوطني بحلب، ولكن في تلك الفترة كان الاهتمام الأكبر بفناني عصر النهضة الأوروبية كدافنشي ومايكل أنجلو ورفائيلو وكان المهتمون يتابعون الحركة التشكيلية العالمية في مدينة حلب من خلال كتب فنية وثقافية كان الفنان طاهر من السبّاقين إلى اقتنائها للاطلاع عليها، والجدير بالذكر أن الأخير تأثر بألوان الفنان بول سيزان وخطوط بابلو بيكاسو وغيرهم من الفنانين الذين شكلوا اللبنة الأولى بالفن الحديث، وجاء معرضه الثاني بعد دخوله الجامعة في كلية الآداب بحلب وهنا بدأت ملامح تجربته الفنية الناضجة تظهر من خلال لوحات هذا المعرض والتي صوّر فيها بواقعية أحياء حلب القديمة وأسواقها الشعبية والعديد من المناظر الطبيعية من الريف المجاور للمدينة، في أواخر عام 1972 نقل الفنان البني تجربته في الألوان المائية إلى دمشق، من خلال معرضه الأول في صالة المركز الثقافي السوفييتي آنذاك، مثبتاً قدرته العالية رغم حداثته الفنية باستخدام تقنية الألوان المائية، التي وجد فيها الكثير من الفنانين صعوبة وركاكةً في استخدامها، بعدها تغيّر أسلوبه وبدأ العمل باللوحة الزيتية وبالأسلوب الواقعي مقترباً من الواقعية الكلاسيكية ومتأثراً بدراسته للأدب العربي وراسماً شخصيات تاريخية مع تخصيص كبير لمدينة حلب في الكثير من اللوحات، بعدها عاد إلى الفن الحديث بأسلوب تعبيري ومن ثمّ بأسلوب تعبيري تجريدي من خلال أعمال تدل على شخصية فنية متمكنة سواء في اللون أم في التكنيك كأحد أهم روافد الفن التشكيلي السوري. ‏

له رأي.. في التشكيل السوري
تحدث الفنان التشكيلي طاهر البني عن الحركة التشكيلية السورية بقفزاتها وبانعطافاتها التي شهدتها منذ منتصف القرن الماضي، وكيف تطورت كي تكون بالغة الأثر في الثقافة السورية المعاصرة متابعاً: «استطاعت الحركة التشكيلية السورية أن ترفد الساحة التشكيلية العربية على نحو مثير للإعجاب والتقدير. ومنذ الستينيات لمعت في سورية أسماء فنية تركت بصماتها بقوة في مضمار هذا الفن نتيجة الجهد الدؤوب لعدد من الفنانين الرواد المجدّدين الذين أشرعوا بوابات الحداثة والمعاصرة، مستفيدين من الدعم الذي وفرته الجمعيات الفنية والجهات الرسمية، والرعاية المستمرة من وزارة الثقافة ومديرية الآثار والمتاحف اللتين نظمت المعارض السنوية، وعمدت إلى اقتناء الأعمال الفنية. ومنذ مطلع القرن الحالي تنامت الحركة التشكيلية في سورية على نحو لافت مع ازدياد الوعي الثقافي ونمو الأوضاع الاقتصادية، وظهور طبقة اجتماعية دأبت على زيارة المتاحف والمعارض واقتناء الأعمال الفنية. جاء هذا متزامناً مع افتتاح عدد من صالات العرض الخاصة إلى جانب العديد من صالات العرض العامة والأجنبية التي أخذت على عاتقها تنظيم المعارض النوعية، وطباعة الألبومات الفاخرة، وتسويق النتاج الفني داخل سورية وخارجها. وبذلك استطاعت الحركة الفنية في سورية أن تنهض بأجنحة قوية لتبلغ مرحلة متطورة لم تشهدها البلاد من قبل».

فنانو حلب والأزمة
عجلة التطور في الحركة التشكيلية السورية أصبحت تسير ببطء، ولكن بخطا نأمل أن تكون متقاربة، بسبب الظروف المأساوية التي تعرضت لها البلاد خلال السنوات الخمس الماضية وعن حال الحركة الفنية التشكيلية وخصوصاً في حلب وما عانته بشكل خاص تحدث الفنان التشكيلي «النجاحات الكبيرة سرعان ما اصطدمت بالظروف المأسوية التي تعرضت لها البلاد خلال السنوات الخمس الماضية، حيث شهدت هجرة عدد غير قليل من الفنانين نتيجة هذه الظروف، كما غادر عدد منهم المدن التي كانوا يعيشون فيها إلى مدن أخرى، تتمتع بأمان أكثر، مبتعدين عن الضغوط النفسية والمادية التي سببّتها الأزمة في بلادنا. وكان لمدينة حلب حصّتها الكبيرة من هذه الأزمة ما دفع العديد من الفنانين إلى مغادرتها، ومع ذلك بقي في المدينة عددٌ من الفنانين الذين آثروا البقاء في مدينتهم طوعاً أو كرهاً، يحتملون صعوبة الحياة وهمومها المعنوية والمادية والاجتماعية، ولا يجدون مفراً من تجسيد مشاعرهم وحبهم لمدينتهم رغم شح الموارد المادية وصعوبة عرض نتاجهم الذي لم يتجاوز حدود المدينة التي حاصرتها الحروب وشلت حركتها، ولم يتمكن العديد من الفنانين المقيمين في حلب من إرسال أعمالهم الفنية إلى المعارض السنوية التي اقتصرت على نتاج الفنانين المقيمين في دمشق والمدن الآمنة القريبة منها».
معرض «حلب قصدنا وأنت السبيل»

عن معرض(حلب قصدنا وأنت السبيل) الذي حضر في صالة ألف نون في دمشق، محتضنا مجموعة من الفنانين التشكليين المختلفين في الخبرة والأسلوب، وكانوا جاؤوا من حلب إلى دمشق كي يؤكدوا بفنهم أن حلب صامدة وأن الحياة ستستمر، كما تحدث الفنان التشكيلي طاهر البني بشكل خاص عن أهمية معارض كهذه وعن دوره ومشاركته فيه «يأتي هذا المعرض خطوة عملية رائدة، وصحوة متميزة في سبيل إنقاذ ما تبقى من الحياة التشكيلية والثقافية في هذه المدينة التي أنهكتها الحرب، وهي خطوة تُحسب لأولئك الذين دعوا إلى إقامة هذا المعرض بما في ذلك مدير صالة ألف نون والجهات الداعمة لها، والوزارات الراعية لها، وهي خطوة من شأنها تخفيف بعض المعاناة عن فناني حلب، وتأكيد مؤازرتهم في محنتهم، وهي محنة شملت معظم الجسد التشكيلي في سورية مع تفاوت في المستويات والمؤثرات، أما عن مشاركتي في المعرض وكانت من خلال لوحتين، تتمحور حول عدد من المرتكزات الموضوعية واللونية التي تنسج علاقات متعددة بالعالم المحيط، نجدها أساساً تقوم من حيث الموضوع على محاولة الانعتاق والتحرر من عنت واقع ما أو ألم ضاغط على الروح، حيث انتهجت إبراز القيمة التعبيرية في الوجوه والأجساد والأشكال الأخرى المشكلة لعناصر اللوحة، فالوجوه الأنثوية خاصةً تظهر في تشكيلاته الأولى سمحة مضاءة بألق خفي، سادرة في حلم يقظة أو متناغمة مع عمق أسرارها من خلال حركة تداخل والتفاف في الخطوط المشكلة للوجوه والأيدي والأذرع وباقي تفاصيل الجسد الأنثوي، وبما ينسجم ويتداخل أيضاً مع عناصر اللوحة الأخرى المكملة لموضوع التشكيل من طيور وديكة وخيول وأسماك وكباش وصقور وسواها.. والطيور البيضاء على أيدي الحسناوات باتت سمة تشكيلية أساسية تميز لوحاتي، لكن صورة المرأة في مجملها باتت تشكل في أعمالي حالة انتظار أو حلم مسافر وتوق إلى المجهول، كما يبدو في نظرات العيون الساحرة الحانية على أسرار الروح وصبوات الجسد، وفي حركة الطائر المتأهب بتحريك الجناحين أو فتحهما، عبر حالة تتداخل مع التشكيل العام الذي وضعت الشخصيات الإنسانية وبقية العناصر في إطاره».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن