الحرب الأوكرانية بين «جزيرة الثعبان» و«طموحات الثعابين».. ماذا تحمل قنابلهم العنقودية؟!
| فراس عزيز ديب
بعدَ أن تجاوزت القيادة الروسية «أزمةَ فاغنر» بهدوءٍ وتعقل، بدا واضحاً للطرفِ الآخر بأن استمرارَ المراهنة على فكرةِ إسقاط «النظام الروسي» من الداخِل سيكون مصيرها مصيرَ إسقاط «النظام السوري» من الداخل، كلاهما أوهام لا يمكِن البناء عليهِما تحديداً أن «ناتو» الذي كانَ قد خسرَ في السابِق ورقةَ العقوبات الاقتصادية ضد الروس وما جنتهُ هذه العقوبات من أزمات في المجتمعات الأوروبية الفاعلة تحديداً، نراها على صورةِ تظاهراتٍ واحتجاجات خسرَ بانتهاء «أزمة فاغنر» الورقة الأهم التي كان من الممكن البناء عليها وهي السعي لخلقِ انشقاقٍ قد يؤدي لصدامٍ عسكري ينهي الهالة الروسية أمام المجتمع الدولي، لكن بمعزلٍ إن كانت قوات «فاغنر» سعَت لتنفيذِ غاياتٍ أجنبية أو إن الأمر كان فعلياً باجتهادٍ شخصي، إلا أنها ارتكبت حماقة لا يمكن محوها بسهولة، لكن حماقةَ «ناتو» لا يبدو بأنها تقل عن تلك الحماقة عندما أعادَ اجترارَ الخطاباتِ السابقة والتي تركِّز على الفكرةِ الأهم: الدعم العسكري لأوكرانيا لن يتبدَّل، فما الجديد؟
ربما من المفيد هنا أن نُعيدَ التذكير بأنه وخلال عامٍ واحد من الحرب الروسية- الأوكرانية، تلقت أوكرانيا دعماً عسكرياً من الولاياتِ المتحدة فقط بما يعادِل أربعينَ مليار دولار، هذا الرقم هو المُعلن أما في الخفاء فإن الأرقام قد تكون أكبرَ من ذلكَ بكثير، هذا بمعزلٍ عن المساعدات الأخرى التي تلقتها من الاتحاد الأوروبي والمساعدات التي لا تحمِل طابعاً عسكرياً، مع التذكير هنا بأن هذه المساعدات تعاد صياغتها عبر تحديد الأولويات كل شهرٍ باجتماعاتٍ تضم ممثلين عن أكثر من أربعين دولة تحتضنها قاعدة «رامشتاين» الأميركية جنوب ألمانيا، هذه الأرقام تبدو مفيدة إن كان لحجم الإنفاق الذي يقوم به «ناتو» أو لعدد الدول التي لا يمكن لها الخروج عن عصا الطاعة الأميركية، مع ذلك نجد بأن الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي مازال يُطالب بالمزيد تارةً لادعاءِ صد الهجوم الروسي وهو ما فشلت فيهِ القوات الأوكرانية حتى الآن على كل المحاور المشتعلة، وتارةً لادعاءِ التحضير لهجومٍ مضاد لاستعادةِ الأراضي التي تمت السيطرة عليها من الجانب الروسي، هنا يصبح السؤال فعلياً في العلاقة بين «ناتو» وزيلينسكي، من يضحك على من؟
غالباً ما حاولَت الولايات المتحدة الظهورَ بمظهرِ المتحفِّظ على إرسال أسلحة نوعية للجيشِ الأوكراني، هذا الكلام ظهرَ جلياً مع بدايةِ المعارك، كانَ الخطاب الرسمي الأميركي يركِّز على فكرةِ أن دعم الأوكرانيين بأسلحة غيرِ تقليدية قد يؤدي لصدامٍ ما بين الولايات المتحدة وروسيا، هذهِ اللغة الدبلوماسية بدت أشبهَ بالنفاق الذي اعتادت الولايات المتحدة على ممارستهُ في الكثير من الملفات، هل تذكرون ادعاءَ عدم تدخلهم بالشأن السوري وانتهى بهم الأمر لاحتلال المناطق الغنية بالنفط وسرقتها؟ كان الخطاب الأوروبي كذلك يركِّز عبر قنواتهِ الإعلامية على فكرةِ أن دعم أوكرانيا هو خط الدفاع الأول عن أوروبا ضد هجومٍ «بوتيني» محتمل، كانوا يروجون لهذهِ الفكرة بل ويحاولون بكل السبل الفصلَ بين روسيا كدولة وطموحات الرئيس فلاديمير بوتين باحتلال أوروبا وكأنهُ كان يُطلب من بعض المحللين كثيري الظهور الإعلامي، تكرارَ هذهِ الفكرة لتبريرِ كل ما يمكن تقديمهُ للجانب الأوكراني، لكن مع مرورِ الوقت بدأت هذهِ اللغة الدبلوماسية تتلاشى، تحديداً أن المتلقي الأوروبي ليسَ بهذهِ السذاجة، بمعزلٍ عن الطريقة التي يختار بها ممثليه والتي يبدو في الكثير منها مُجبراً بين السيئ والأسوأ، فتصريحات الرئيس بوتين العقلانية التي توصِّف جوهر الصراع وحرصه على العلاقة مع الشعوب الأوروبية، يسمعها المواطن الأوروبي الباحث عن الحقيقة، ربما هذا الكلام قد لا يُعجب الكثيرين ويرون بأن الناخب الأوروبي أو الأميركي صورة عن الذين يختارهم، لكن لندقق بالمثال الأهم، ألم يكن نجاح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مفاجأة مدوية؟ ألم ينجح بسبب خطاباتهِ الرافضة للحروب والتدخلات العسكرية، ألم يصل بهِ الحد لإعلانِ الانسحاب من سورية ثم تراجع بضغطٍ من البنتاغون دفعَ ثمنه فيما بعد؟ أي إن الناخب في هذهِ الدول يقوم بما هو عليه لكنه محكوم بواجهات ديمقراطية لا تمثل الخيارات الحقيقية للشعوب.
بالسياق ذاته لا يمكننا إغفال أن تلاشي اللغة الدبلوماسية قد يعود لما تم الاستيلاء عليه من سلاحٍ غربي من قبل الجيش الروسي خلال المعارك التي انتهت بسيطرة الجيش الروسي على تلك المناطق وربما ما أجبرهم على ذلك أيضاً هو طول انتظار التراجع الروسي عسكرياً واقتصادياً وصولاً إلى الحديثِ العلني عن رفعِ السقف بنوعية الأسلحة المرسلة لدعم الجيش الأوكراني لنصل اليوم للحديث عن إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن عن دعمِ أوكرانيا بالقنابل العنقودية، هذا الإعلان سيفتح حكماً صفحة جديدة في هذا الصراع يمكننا اختزاله باتجاهين أساسيين:
الاتجاه الأول يشي بالذهاب في الصراع إلى أبعد الدرجات بما فيها كسر المحظورات بين القطبين الرئيسيين الولايات المتحدة وروسيا، تحديداً إن هذا السلاح الذي تدين امتلاكه المنظمات الدولية بما في ذلك اتفاقية أوسلو عام 2008 تلقت أخبارَ تسلميهِ للجيش الأوكراني معارضة قوية من قبل حلفاء الولايات المتحدة نفسها الذين اعتبروا نوعاً كهذا من السلاح يشكِّل خطراً على المدنيين بمعزلٍ عن الجهة التي تستخدمه، حتى إن بايدن خلال إعلانهِ تسليمَ هذا السلاح للأوكرانيين ركَّزَ على فكرتين، الأولى هي صعوبة القرار المتخَّذ لما يحويه هذا التسليم على محاذيرَ قد تظهر نتائجها عقب استلامها، أما الفكرة الثانية والتي تجاهلَها مروجو فكرة الهزيمة الروسية هي تأكيد بايدن أن سبب هذا القرار يعود إلى الوضع الصعب الذي يعيشه الجيش الأوكراني، وكلام بايدن كان يجب أن يتبعه بعبارةِ «رغمَ كل ما تلقاهُ الجيش الأوكراني من مساعداتٍ عسكرية وغير عسكرية»، هذه التفصيلة التي كان من الضروري التمهيد لذكرها في مقدمةِ هذه الزاوية هي فقط لمن يسخر فعلياً من فكرة أن روسيا تحارب «ناتو» في أوكرانيا والذي دفع الثمن الأهم هم الأوكرانيون أولاً وأخيراً، فهل بدأت بوادر الصدام المباشر تظهر؟
الاتجاه الثاني يشي بفرضيةِ أن الصراع بلغَ مداه ولا يمكن له أن يذهبَ أبعدَ من ذلك، تبدو هذهِ الفرضية أكثر قرباً للمنطق، فإذا استثنينا فكرة أن أحداً لن يقبلَ بانزلاقِ الصراع إلى حربٍ مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا، فإن من يتحدث عن سيناريو سعي أميركي لإطالةِ أمد الصراع لاستنزاف الروس يتجاهل فعلياً ما تسببت به هذه الحرب من ضررٍ للطرف الأقرب إليها في «ناتو» أي أوروبا، الأمر لا يتعلق بالاتحادِ الأوروبي فحسب حتى الجانب التركي الذي لا علاقةَ له بالاتحاد الأوروبي بدأت الأوضاع الاقتصادية لديهِ تشهد انحداراتٍ غير مسبوقة تخللها تدهور بأسعار العملة وزيادة في الضرائب، إذن تبدو هذه «المراجل الوهمية» هي تقطيع للوقت بهدفِ الوصول إلى تسويةٍ ما تبدو أقرب لقبول جميع الأطراف بها، فالوساطات لم تتوقف حتى من تراهم أمام عدساتِ الكاميرات يكيلون الوعود للدولةِ الروسية هم في حقيقةِ الأمر يسعون جادين لإنهاءِ الأمر بصورةٍ سلمية فماذا ينتظرنا؟
خلالَ لقائهِ بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم الخميس الماضي، أكد زيلينسكي بأنه يريد العمل مع كل الذين يريدون السلام، زيلينسكي الذي زارَ «جزيرة الثعبان» على البحر الأسود منتشياً بقدرةِ هذه الجزيرة على صد هجوم روسي بحري قبل عامٍ من الآن، تجاهل حجم ما أدخله إلى بلدهِ من ثعابين برفضه المفاوضات المباشرة، كان ليجنب المنطقة والعالم هذه الحرب، بعيداً عن إغراءِ «ناتو» كان من الواضح بأن الزيارة التي قامَ بها إلى تركيا لم تكن مجردَ زيارةٍ عابرة وهي أبعدَ ما تكون عن مجردِ نقاشٍ لتفاصيل اتفاقية إعادة تصدير الحبوب، نتحدث هنا مع التركيزِ على قدرة الجانب التركي على التواصل مع طرفي الحرب وهو الأمر الذي لا يمتلكهُ باقي الأطراف المنخرطة بالصراع بما فيهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي خسرَ هذه الصفة وعلاقته المميزة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين لحسابِ تصريحاتٍ لا طائلَ منها، بالسياق ذاته فإن الحديث عن لقاءات تجمع الجانبين الروسي والأميركي بدأَ يتزايد رغمَ النفي الرسمي لكلا الطرفين، لكن هذا النفي يبدو مفهوماً انطلاقاً من حسابات خط الرجعة حالَ إخفاق المفاوضات، وبمعنى آخر: لا حربَ مباشرة، الجميع سئمَ مما آلت إليه الأوضاع باستثناء الولايات المتحدة فهل ينجح الأوروبيون بضغوطهم لقبول أميركي بصيغةٍ توافقية؟ يبدو أن الأمر يسير بهذا السياق، دعكم من كل العنتريات الإعلامية!