أول كتاب يصدر بالعربية والأرمنية عن الإبادة … فائز الغصين شاهد عيان عربي سوري عن الإبادة الأرمنية
| سارة سلامة
في 24 نيسان من كل عام يحني الشعب الأرمني الرؤوس إجلالاً لذكرى شهداء الإبادة الأرمنية الأبرار، إنها بالنسبة لأرمينيا وعموم الأرمن في أنحاء المسكونة ليست حداداً وطنياً لإحياء ذكرى الشهداء القديسين فقط، وإنما هي إصرار شعب على الاستمرار بالعيش والإبداع وتعزيز طابعه الأخلاقي، ولتبقى هذه الذكرى حاضرة.
صدر عن دار الشرق للطباعة والنشر، كتاب بعنوان «فائز الغصين شاهد عيان عربي سوري عن الإبادة الأرمنية»، حيث اختاره الدكتور أرشاك بالاستثناء من عديد الشهود، واستعان بالدكتور السفير السابق في سورية ليفون سركيسيان لإخراج هذا المخطوط المهم، لأنه يوثق لمرحلة مهمة ودقيقة ومفصلية في حياة الشعب الأرمني، وما مرّ به خلال المجازر الرهيبة التي تعرض لها في حينها، ويؤكد صاحب المخطوط وحدة الدم السوري والأرمني، وما حملته تلك المرحلة من معاني الأخوة والصداقة.
احتوى الكتاب على ثلاثة أجزاء «فائز الغصين والإبادة الأرمنية»، فائز الغصين «المذابح في أرمينيا»، فائز الغصين «من مذكراتي عن الثورة العربية»، إعداد وتقديم ودراسة وترجمة من العربية الدكتور أرشاك بولاديان والدكتور ليفون سركيسيان.
حياة شعب
جاء تقديم الكتاب للدكتور نبيل طعمة حيث قال: «لا يتغير التاريخ، إنهم حاولوا أو يحاولون طمسه وقصّه، وأقصد طبعاً الطورانيين العثمانيين الترك قديماً وحديثاً، لكنه يعيد كتابته من جديد، يشير ويؤكد ما حصل في تلك الحقبة المهمة عام 1915م، التي يحثّ فيها جميعنا على عدم نسيانها، لأنها ذاكرة حياة شعب يحملها على كاهله مع الخلص من أبناء أمته وشعوب العالم بأسره، مسؤولية تقديمه لشرفاء العالم».
«سيذكر البرفسور الدكتور أرشاك بولاديان كعلم بلاده وكعلامة بارقة وفارقة، بما قدمه ويقدمه عن مسيرة أمته وشعبه وجغرافيته، وترسيخه حضورهم ضمن وطنه، وتألقهم وانتشارهم وتداخلهم وتفاعلهم مع ثقافات وحياة الشعوب التي دخلوا عليها، وعملوا معها على إضاءة فيض الإنسانية المحبة للحياة، ووقوفه في وجه فكر الكراهية والقتل والفرز والإقصاء بقواه الفكرية والعلمية، ومحاولات الإفناء التي حاول العثمانيون من خلال المجازر التي قاموا بها بأبشع عملية إبادة لشعب خلاق أعزل».
الإبادة الأرمنية
شغلت القضية الأرمنية بما فيها الإبادة التي حلت على الشعب الأرمني التاريخ العربي الحديث والمعاصر، فالدراسات المكرسة عن الشعب الأرمني والتاريخ السياسي لأرمينيا التي قام بها الباحثون العرب على أساس مجموعة واسعة من الدراسات، قد ألقت الضوء على سياسة الإمبراطورية العثمانية القاسية والوحشية في أرمينيا الغربية، والظروف القاسية التي عاشها الشعب الأرمني، ونضاله من أجل التحرر، إلا أنه وفي بداية النصف الثاني من القرن الماضي ازداد تركيز اهتمام المؤرخين العرب على القضية الأرمنية.
يشير الغصين بشكل عام إلى أنواع القتل والدمار المختلفة التي نفذت، ليس فقط في ديار بكر، بل في الولايات العثمانية كافة، ووفقاً لتقاريره، فإلى جانب التعذيب والاغتصاب وأساليب الاضطهاد الأخرى، فإن عدداً كبيراً من الأرمن المنفيين قتلوا بالأسلحة النارية، وذبحوا بالسكاكين والفؤوس والخناجر كالغنم، إضافة إلى إغراقهم في مياه دجلة والفرات، ورميهم من مرتفعات الجبال والوديان، وخنقهم بالدخان، ورميهم في الآبار، حتى يموتوا جوعاً، ويلقوا حتفهم، وغير ذلك من الأساليب الوحشية، وتم تطبيق هذه الأحكام على الجميع بغض النظر عن الجنس والعمر، ولكن باستثناء النساء الجميلات والمراهقات اللواتي كن يؤخذن زوجات، أو يستخدمن جاريات، أما ما يمتلكه الأرمن من منازل وممتلكات، فقد كان يتم اختلاسها فوراً من الأتراك الذين قاموا بتحويل الكنائس إلى مستودعات بعد سرقة محتوياتها وكل الأغراض المنزلية وبيعها بأبخس الأسعار.
المذابح في أرمينيا….
فائز الغصين… حلب 1991
أما سوق الأرمن للقتل، فإنه لأمر تشيب من هوله الرؤوس، وتقشعر من فظاعته الجلود، وقد نقل لي أحد أفراد الدرك في ديار بكر، كيف يساق الأرمن؟ فقال: «إنه عندما يؤمر بإخراج عائلة من الأرمن وإتلافها، يأتي المأمور إلى دار هذه العائلة ويعيدها ويسلمها لقائد المليس، أو لأحد ضباط الدرك، فيوضع أفراد يخفرون الدار وسكانها تلك الليلة، وأنه يجب عليها أن تتهيأ للقاء ربها، وتفكر فيما سيؤول إليه أمرها، فيبدأ الحريم بالصراخ والعويل، وتظهر آثار الحزن والقنوط على وجه الرجال والنساء، ويموتون قبل أن يأتيهم الموت، وأما الأطفال الصغار، فإنهم تارة يضحكون، ويلعبون، وتارة يأخذهم الرعب من بكاء آبائهم، فيجلسون أذلاء واجمين جاهلين أسباب هذا البكاء والعويل، غير أنهم سيكونون تحت التراب بعد ساعات تاركين هذه الحياة الفانية، قبل أن يذوقوا من لذائذها شيئاً فيعدوها سعادة، ويأسفوا على فراقها.
وبعد الساعة الثامنة يؤتى بعجلات تحمل هذه العائلات لمحل قريب، فيقتلون هناك بالرصاص، أو يذبحون كذبح الغنم بالسكاكين والخناجر والفؤوس.
فائز الغصين «من مذكراتي عن الثورة العربية» الجزء الأول دمشق 1956
يكتب الغصين في مذكراته ومن إحدى الحوادث التي عايشها بعنوان «طفل في القفر»: «وقبل وصولنا إلى ديار بكر ببضع ساعات، رأينا طفلاً لا يتجاوز الرابعة من عمره، أبيض اللون بعينين زرقاوين وشعر ذهبي، تلوح عليه آثار النعمة والترف والدلال، لابساً بدلة سماوية من المخمل، ولكنها ممزقة، واقفاً تحت أشعة الشمس على حافة الطريق، لا يتحرك، ولا يتكلم، فأمر الضابط الحوذي أن يوقف المركبة، ونزل واحد، وسأله، فلم يجبه عن سؤاله، ولم ينبس ببنت شفة، وكيف يتكلم وهو صغير، وربما لا يعرف غير الأرمنية، ومن يعلم ربما كان لا يقدر على الكلام من الجوع الذي أضناه، فقال الضابط: لو أخذنا هذا الطفل معنا إلى ديار بكر لضبطته منا الحكومة، كالمال المهرب، أو كالسلاح الممنوع حمله، وكان نصيبه القتل كنصيب غيره من الأرمن، فالأوفق أن نتركه، لعل اللـه يحنن عليه أحد المارة، يأخذه ويربيه، ولم نكلمه نحن بشيء، وركب الضابط العجل، وسرنا في طريقنا، وتركنا هذا الطفل، كما رأيناه لا يتكلم، ولا يبكي، ولا يتحرك أبداً، كأنه لم يكن إنساناً، وكأننا نحن لسنا من البشر، ولم تكن في قلوبنا ذرة من الشفقة والرحمة ومن يعلم ابن أي مثرٍ، أو ابن أي وجيه من وجهاء الأرمن هو، وبعد أن كان لا يرى الشمس، أصبح يتيماً بعد قتل أبويه، وقد يكون طعمة للوحوش في هذه الليلة».
الغصين
فائز الغصين هو شاهد عيان عربي سوري عن الإبادة الأرمنية، ولد في اللجاة، من أعمال حوران وتعلم بدمشق وأدخل مدرسة «العشائر»، بإسطنبول وعاد فعين قائم مقام وأقيل، فافتتح مكتباً للمحاماة، واعتقل سنة 1915م، وسيق إلى ديوان الحرب العرفي في عاليه، وظهرت براءته، ووجد الوسائل للسفر إلى جدة، فدخلها سنة 1916، ولحق بالشريف فيصل بن الحسين في ينبع فكان «سكرتيراً»، له إلى دخول دمشق، وكان معه في مؤتمر الصلح، وعمل في المعهد الفرنسي بسورية في القضاء إلى أن كان «مفتش عدلية»، وأحيل إلى التقاعد، فعمل محامياً بدمشق إلى أن توفي.
من أعماله: المذابح في أرمينيا، المظالم في سورية والعراق والحجاز، مذكراتي عن الثورة العربية في جزأين الأول صدر عام 1939، والثاني 1970.