عندما نفتقد قامة وطنية
| بسام أبو عبد الله
كنت في بوخارست للمشاركة في مؤتمر دولي حول «التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط بين محاربة الإرهاب ومستقبل المنطقة» عندما بدأت رسائل الزملاء الإعلاميين تتدفق في هاتفي الجوال عن نقل الأستاذ عمران الزعبي إلى المشفى، ما بين من يتحدث عن حالته الحرجة، وبين من حسم أن المنية وافته، وكانت دقات قلبي تتزايد حزناً وألماً على صديق ورفيق درب ووزير إعلام عملنا معه في أقسى الظروف التي مرت بها سورية، ظروف العدوان الفاشي الإرهابي الذي ما زلنا حتى تاريخه نواجهه، ويدفع جيشنا وشعبنا الشهداء والجرحى في مواجهته.
في حضرة الموت تحضر الذكريات، وهي ليست ذكريات عادية، في زمن عادي، إنما هي ذكريات المواقف التي لا مساومة عليها، فلم يكن عمران الزعبي قامة وطنية أخذت موقفها الحاسم إلى جانب شعبها وجيشها وقائدها، ولكنه كان قامة إنسانية تجاه رفاقه الذين شاركهم، وشاركوه اللحظات الصعبة والقاسية والمقلقة التي كنا نتقاسم فيها الإصرار والعزيمة، والمعنويات العالية في مواجهة أقسى عدوان يتعرض له شعب ودولة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حسب ما قال الكثير من الخصوم.
عمران الزعبي ابن حوران ودرعا التي كان يعتز بانتمائه لها، ويحزن كثيراً على ما آلت إليه الأوضاع فيها، لكنه لم يتردد لحظة في بذل كل الجهد لإقناع أهله، ومن يعرف، بأن هذه الحرب هي حرب ضد الوطن بأكمله، حرب تستهدف وجودنا وثقافتنا وانتماءنا وجذورنا، ولم يكن لديه تردد للحظة في شرح هذه الخلفيات، والأسباب لكل من لديه بصر وبصيرة، ومع كل ذلك كانت عيناه تدمعان على العجوز الدرعاوية التي كانت تزور قبر ابنها، وتحدثه بلغة حوران المحببة عن البطولة والتضحية في سبيل الوطن، وهو الفيلم القصير الذي كان يعرضه التلفزيون السوري في مرحلة من مراحل الحرب، وكان يقول دائماً هذه هي ثقافة درعا وحوران، ثقافة وطنية عروبية أصيلة، وما حدث فيها مرحلة شاذة في تاريخها وتاريخ سورية.
عندما تسلم عمران الزعبي وزارة الإعلام هاجم الإرهابيون مقر الإخبارية السورية في منطقة خان الشيح، وفجروا المقر واستشهد هناك زملاء إعلاميون، ولكنه منذ الصباح الباكر كان في مكان الحدث مع وزير الإعلام الحالي الأستاذ عماد سارة الذي كان مديراً للإخبارية آنذاك، يقفان بكل شجاعة واقتدار ليرسلا الرسالة الواضحة لقوى العدوان بأننا ها هنا باقون، وبأن إرهابكم لن يخيفنا، ولم يتوقف صوت الإخبارية للحظة واحدة أبداً، الأمر لم يتوقف هنا إذ تعرض مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون لهجوم إرهابي بسيارتين مفخختين، وقبلها جرت محاولة للتفجير داخل المبنى، وهي معركة شرسة كان يخوضها الإعلام السوري بقيادة وزيره عمران الزعبي، ولأن هذه اللحظات الصعبة عشناها وعايشناها، فبإمكاننا أن نكتب عنها، كما أن من حق كل من صمد وضحى علينا أن نذكر ذلك، ونكتب عنه.
ولأننا من الذين عملوا مع الراحل الصديق عمران الزعبي فمن حقه علينا أن نذكر لحظات ومواقف قد لا يعرفها كثيرون، فلقد كنا معاً في خلية أزمة لاحتمالات العدوان الأميركي على سورية في أيلول أو تشرين الأول 2013، حيث تم اتخاذ كل الترتيبات لاحتمالات استهداف مبنى التلفزيون، وكان عمران الزعبي يقود هذا العمل المعقد، كما قاد مرحلة التحضير لمؤتمر جنيف 1، وشارك به بكل قوة واقتدار مع طاقم سياسي دبلوماسي محترف، ووطني ترأسه وزير الخارجية والمغتربين وليد المعلم، وفي حزيران عام 2014 جرت إدارة الحملة الإعلامية لانتخابات رئاسة الجمهورية التي نجحت نجاحاً باهراً آنذاك، وقدمت رسالة سياسية إعلامية للعالم لم يستطع أحد تجاوزها.
كثيرة هي الأحداث والتفاصيل واليوميات التي يمكن الحديث عنها وتذكرها، فالموت لا يبقي من الإنسان إلا البصمة التي يتركها لشعبه ولأمته، وذكراه الطيبة، وهنا تحضرني مقارنة بسيطة بين من بقي بين أبناء شعبه وقاتل ودافع عن وطنه وبلده ووجوده كيف يكرم ويحترم، وتبقى ذكراه عطرة في تاريخ بلاده وشعبه، وبين من باع وطنه وشعبه مقابل حفنة من الدولارات حيث لا ذكرى ولا وجود.
عمران الزعبي الأخ والصديق والرفيق الذي ظل مؤمناً ومدافعاً عن العروبة كثقافة جامعة للجميع، وكحاضن لكل السوريين، قد تكون غادرتنا جسداً، ولكن ذكراك ستبقى، ومواقفك الوطنية ستذكر، وعملك الدؤوب وإخلاصك سيدوم، ولتكن واثقاً أن رفاقك الذين بدؤوا معك مسيرة الدفاع عن هذا الوطن العظيم، والشعب الكبير، والقائد الحكيم، سيستمرون على الدرب ذاته، درب النضال من أجل سورية المستقبل، سورية الحرية والكرامة والاستقلال الحقيقي، ولتطمئن مع كل الشهداء بأننا نسير نحو نصر تاريخي كبير بقيادة الرئيس بشار الأسد الذي أحببته، وأخلصت له كرمز وطني عروبي كبير مقاوم أسقط أكبر مشروع عدواني فاشي ضد سورية والمنطقة.
وداعاً أيها الأخ، والصديق والمحب لرفاقه والودود والدمث وصاحب الابتسامة والنكتة، ولا أنسى كلماتك لنا عندما كنا نتأخر بالنقاش في مكتبك حتى ساعة متأخرة من الليل، عندما كنت تقول: «شو رأيكم ناموا عنّا».
للأسف الموت خطفك منا بشكل مفاجئ، ولكن هذا قضاء الله وقدره، وكلنا نسلم به، والعزاء كل العزاء لأسرتك الكريمة ولكل محبيك، ولكل الأصدقاء والرفاق، وللشعب السوري ولقائد الوطن الرئيس بشار الأسد، لأننا عندما نفتقد قامة وطنية بحجم عمران الزعبي، نشعر بفقدان سنديانة في غابة السنديان السورية التي لن يستطيع أعداؤها مهما فعلوا أن يجتثونا جميعاً، فهذه الأرض كما كنت تقول دائماً عمرها آلاف السنين، ونحن باقون هنا، ولن نذهب إلى أي مكان آخر.
نم قرير العين، فسورية التي أحببت وعشقت ودافعت عنها مثل آلاف السوريين، ستعود قوية معافاة زاهية بنصر تاريخي سيذكره التاريخ.
هذا جزء بسيط من الوفاء لقاماتنا الوطنية في هذه الحرب الفاشية العدوانية، والوفاء الأكبر أن نستمر على درب الإخلاص للوطن وشعبه وقيمه ومبادئه، وأن نعمل يداً واحدة لحمايته، وتقويته وإصلاحاته المأمولة، فبهذا نكون مخلصين لمن ضحوا واستشهدوا.