بشكل متزايد، تتقلص المنظومة التجارية الدولية كرداء ضيق يعجز عن استيعاب النمو المضطرد للاقتصاد الصيني إلى الحدود التي بدأ بالضغط على شرايينه التجارية خارجاً وداخلاً.
الإمبراطورية الاقتصادية الصينية، بميزانها التجاري الذي قطع عتبة الـ4 تريليون دولار حتى نهاية الشهر الحادي عشر من هذا العام، تتطلع إلى إدخال إصلاحات هيكلية على منظمة التجارة العالمية تتزامن ومقدمات أفول حقبة الإمبراطورية الغربية وانحسار أمواجها القديمة شيئاً فشيئاً من آسيا.
السفير الصيني بدمشق في هذه الصحيفة، استعرض الأسبوع الماضي منطلقات الرؤية الصينية للعالم الاقتصادي الجديد ضمن سياقات متعددة الأطراف، تحتشد على مفارقها الدول النامية للدفاع عن مصالحها: «بصوت موحد.. لبناء الاقتصاد العالمي المنفتح، وإقامة مجتمع مصير مشترك للبشرية».
ترتكز الرؤية الصينية إلى التعاون القريب في بيئة «عولمة رحيمة» تنسجم مع الذات الشرقية التي تسكنها العدالة، وتتسق مع ثقافتها التاريخية، على هذا المنوال، تنزع الصين إلى إخضاع إمبراطوريتها لمحددات صارمة، إلا أن العالم النامي، وعلى سبيل تجربته التاريخية مع الإمبراطوريات، يتوق -في الواقع- إلى نماذج كاشفة يستلمح من خلالها أخيلة مستقبله في ثنايا الرؤية الصينية إلى الاقتصاد العالمي.
بدرجة ما، كانت أوروبا نموذجاً إمبريالياً للولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، كما كانت الثانية نموذجاً استعمارياً للأولى قبل ذلك، وكذا كان الحال مع بعض جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط نموذجاً غربياً لكليهما خلال الحرب الباردة، وقبلها، كانت مستعمرة (الهند الصينية) نموذجاً جلياً لسوء الإمبراطورية البريطانية ثنائية المقصلة: للصين في حربي الأفيون، وموانئ الغزو نحو مستعمرات الشرق الأوسط.
ثمة اختلاف بنيوي في رؤية الإمبراطورية الاقتصادية الصينية إلى العالم، لكن ذلك لا يقلل من أهمية النموذج الذي يتوجب عليها تقديمه كمرآة للتنمية العادلة التي تنشدها، وكشرط لازم لاكتمال بنائيتها العالمية.. فأين يمكن للعالم أن يعاين اليوم صورة واضحة متكاملة لنموذج التنمية الصينية خارج حدودها؟
(الصورة النموذج) هذه، حاجة صينية بالغة الأهمية كي تطمئن عيون البشرية لنصف ما تراه، وقد لا يكون التقاطها سهلاً مع تناثر النفوذ الغربي من شمال إفريقيا وحتى عمق آسيا، إلا أن ثمة مساحات كافية للصين لاصطناع الكادر اللازم هناك.
في هذا السياق، تبدو سورية اليوم ضرورة لاكتمال البنائية الصينية، فثمة الكثير مما يمكن البناء عليه لتقديمها كنموذج للانخراط الصيني في بعده العالمي، والفرادة السورية هنا تستند إلى حضور جغرافي جبهوي، وتاريخ من مناهضة الهيمنة الغربية، كما أنها بنية بكر سيكون لكل تبدل إيجابي في معطياتها أن يتخذ له عنواناً صينياً.
لا شك في أن الصين تستطيع إيجاد مناطق استثمارية أكثر جذباً من سورية الراهنة، لكن، وفي الوقت نفسه، فإن النظر إلى البناء فوق حطام الاندحار الغربي الاحتلالي الوشيك من الشرق الأوسط سيتمظهر كتطعيم لهياكل إمبراطورية أخرى، ولذلك لن يكون من السهل على الصين اعتماد أحد أقاليمه الأخرى نموذجاً خالصاً لرؤيتها، ناهيك عن أن المدى المنظور يلوّح بتبدل جوهري في البنية الاقتصادية لذلك الشرق تضطلع خلاله سورية بدور حجر الزاوية وعقدة تجارته العالمية.
لا شك بأن سورية تمثل أحد الأقاليم الفريدة التي يمكن للشخصية الإمبراطورية الصينية أن تتجلى من خلالها، فهي تعكس جزءاً مهماً من تاريخ ولربما مستقبل تلك الشخصية، كما أنها محط تكامل فلسفي بين التطلعات الروسية والصينية إلى العالم وفق توازناته الجديدة، ففي الوقت الذي ترمق فيه روسيا شرق المتوسط من منظارها الخاص كقائد أوركسترا أمن الطاقة العالمي، تتطلع الصين إلى ممراته وموانئه كمركز لتجارة سلعها العالمية، لا بل يمكن لهذا الطباق التجاري المتعاكس أن يقلص الحرج الطاقوي الذي يسم العلاقة الاقتصادية السورية الروسية، عبر امتصاص عقدة التناقض بين الاقتصادين كليهما كمنابع وممرات عملاقة لتجارة الطاقة.