هناك ثلاث تجارب لأزمات داخلية حادة تحيط بسورية، ففي الأردن نهاية السبعينيات اندلع صراع بين الفصائل الفلسطينية والسلطة السياسية، وبعد سنوات نشبت الحرب في لبنان التي استمرت لعقدين تقريباً، ثم كانت الحرب العراقية التي حدثت إثر الاحتلال الأميركي للعراق، ومع اختلاف ظروف هذه الصراعات لكنها في الخط العام قدمت تجارب للاضطراب، وأنتجت نظماً سياسية يمكن النظر إليها ضمن مشهد يحوي نماذج مختلفة.
تختلف الأزمة السورية بطبيعة الاشتباك الدولي الذي يحتويها، وبنوعية الصراع بين أطرافها الداخلية وما خلفته من انقسامات مختلفة، وتفترق أيضاً في نوعية العلاقات الداخلية التي تظهر باستمرار على مساحة الاضطراب، فالنموذج الذي يمكن أن تقدمه مازال ضمن إطار التجريب إن صح التعبير، ورغم عدم القدرة حتى اللحظة على إيجاد توازن بين الشأنين الدولي والإقليمي؛ يبقى الموضوع الداخلي نقطة «ترجيح» لمسار الأزمة خلال المرحلة القادمة.
عمليا فإن الأزمة الأردنية في نهاية العقد السادس من القرن الماضي أنتجت نظاماً سياسياً صلباً بـ«شرط دولي»، فالملكية الأردنية بقيت لأربعة عقود حديقة خلفية لتبريد الجبهات الإقليمية، وعلى الأخص الموضوع الفلسطيني، وانتهت مع بداية الألفية الثانية كذراع إقليمي ضد التحولات في المسألة الفلسطينية، على حين أعطت التجربة اللبنانية حالة مناقضة لنظام سياسي يحمل تنافساً حاداً بين مكوناته، وقدم معادلة علاقات داخلية؛ لا تملك أي ضمانات من الانهيار سوى قدرتها على التجاوب مع الاحتياجات الإقليمية.
في النموذج العراقي فإن الخيارات الداخلية محاصرة كلياً، فالمحاصصة الطائفية أصبحت في النهاية خزان أزمات يكفل عدم إنتاج دولة مركزية فعالة، فهي الأعقد من بين الأزمات السابقة، وهي أيضاً المقدمة التي فتحت الباب أمام الأزمة السورية كي تأخذ بعدها الحالي؛ لأنها قدمت سابقة على المستوى المعاصر في تغيير النظام السياسي عبر الاحتلال.
عبر رؤية التاريخ القريب للمنطقة فإن المهام السورية تبدو مختلفة، لأن النماذج السابقة هي مأزق حقيقي أمام أي محاولة لإنتاج علاقات داخلية سورية بعد صراع عنيف، سواء مع الإرهاب أم مع الضغوط الدولية في مسألة الحل السياسي، فالصراعات أبعدت المجتمع عن التشكيل الطبيعي للعلاقات ووضعته أمام «السياسات» والاحتمالات الإقليمية الدولية لإنتاج «عقد اجتماعي»؛ سيكون في النهاية صورة عن جميع التناقضات في المصالح بين دول الجوار بالدرجة الأولى.
مهمة المجتمع السوري هي مقاربة في تخفيف «التنافس السلبي» بين المكونات الاجتماعية السياسية، وفهم عمليات «التكامل» لإنتاج واقع جديد لا يمكن معرفته بشكل واضح قبل اكتشاف «نظام التكامل» المطلوب للخروج من الأزمة، وهذه المهمة لا يغيبها النشاط الدولي لحل الأزمة فقط، بل يزيدها تعقيداً عبر البحث عن «تنازلات» من الأطراف، أو فرض توازن في التمثيل، أو غيرها من الحالات التي رافقت فترات التفاوض السياسي.
بالتأكيد فإن الأزمة السورية رهينة جملة من القرارات الدولية، ومعظم تجلياتها تظهر في الجهود السياسية التي تخضع لحالة من «النمذجة»؛ تبعدها عن إمكانية الدخول في حل سياسي مختلف، فاكتشاف تكامل المكونات ليس تهويماً وسط التناقضات والمعاناة التي يعيشها السوريون، بل تفكير يمكن أن ينتج آليات على المستوى الداخلي لكسر الشرط الدولي في الحل السياسي، فـ «نظام التكامل» سيقدم في النهاية جملة مبادئ مختلفة تجعلنا ننظر للأزمة من زوايا بقيت غائبة، أو حتى مغيبة، وتجعلنا نكتشف مساحات لا يتم التعامل معها، فحلول الأزمة السورية هو تفكير وآليات جديدة وليس توافقات بحكم الأمر الواقع.