احتلت هذه السهرات جانبا كبيراً من ذاكرة كثير من الدماشقة، الذين عاشوا أوائل النصف الأول من القرن المنصرم، وما زالت تدغدغ ذاكرتهم وأحاسيسهم، وتحتل جوانب من الحنين إليها، لما كانت عليه من أنس ومحبة وصفاء وإيثار، حتى لكأنها حياتهم التي عاشوا.
كان من هذه ما اقتصر على حضور أفراد الأسرة كما كان منها ما شمل نساء القاطنين بالدار يوم كانت تسكن أسرة بكل غرفة من غرف الدار وكان الرجال يختلفون إلى المقهى لسماع الحكواتي وهو يروي لهم قصة عنترة بن شداد، أو الزير أو قصة أبي زيد الهلالي أو لقضاء هذه السهرة بالمقهى للتسلية بلعب ورق الشدّة كالباصرة والمحبوسة، أو لعب لعبة من ألعاب طاولة الزهر، وذلك في جوّ ممتع بلا ناقد ولا منقود.
وما زلت أذكر جدّتي بثلاثينيات القرن الماضي وهي تمسك بيدي لأصحبها إلى سهرة كانت يومها بدار أبو أحمد عزو بزقاق الشيخ من حي الشاغور. وقد أحببت أن أنقل إلى القارئ أحداث سهرة من هذه السهرات، لما كانت عليه من مرح وصفاء وحبور، بما ينسي الإنسان هموم الحياة. كان هم الواحدة من الساهرات أن تنقل للساهرات بهذه السهرة جميع ما قد يعنّ على بالها من أمازيح (مزاح) وأقوال وأمثال وحكايات بل كل ما من شأنه أن يجعل البسمة لا تفارق محيّاهم.
والإشراقة والمسّرة لا تفتران عنهم أما الأطفال، فلا يجوز لهم حضور هذه السهرة، ولهم اللعب بمكان آخر غير مكان انعقاد السهرة. وإذا كان من الأطفال من لا يرغب مغادرة السهرة فإنهم كانوا يختبؤون باليوك الذي بالغرفة التي تقام بها السهرة، فإذا تحركوا فإن الفرش واللّحف التي بذلك اليوك سرعان ما تقع على الساهرات، وكثيراً ما كانت الأم تأخذ طفلها إلى غرفة يلعب بها أو ينام، فإذا بالطفل يعود إلى السهرة بعد فترة طالبا إلى الساهرات عدم الضجيج لأن والدته قد نامت!
وإذا كان فم الواحدة من الساهرات لا يفتر عن الكلام، فإنها لا تكاد تتوقف عن تناول ما أمامها من مأكل أو مشرب من مغلي الزهورات والمليسة والشاي، فضلاً عن الفواكه المجففة من الزبيب والنقوع والموالح، وأحياناً الفول المسلوق (النابت) وكذلك الشوندر، وقد يتناولن بهذه السهرة المآكل الشعبية المطهوّة، ومن ذلك أكلة: حرّاق إصبعه، والبالوظة، والهيلطية، ومنهن من تقوم بلعق آنية الطعام على سبيل الإضحاك والسرور.
وكان من الساهرات من يلعبن لعبة البرجيس أو لعبة من لعب ورق الشدّة كالباصرة والمحبوسة ولعبة أبو الفول التي يجب على المغلوبة بهذه اللعبة أن تقدم للساهرات طعام الفطور باللقاء القادم.
وكان للأغاني الشعبية مجال لا يستهان به بهذه السهرة، وبخاصة الأغاني التي تشيع الطرافة والإضحاك، ومن ذلك مقطوعة:
يه يه لسّا لاحقني، وكذلك: وين كنت رايحة يا شّن برنّ ومقطوعة: عمي يا علي يا بتاع الزيت.
وهم إذا لم يتوافر لهن أداة إيقاع للغناء فإنهن قد ينقرن على صحن أو إبريق كأداة إيقاع، ومن أطرف ما كان بهذه السهرة: قدوم عدد منهن على شكل عراضة وهن يرتدين ملابس الرجال.
فضلاً عن هذا فقد يعمدن إلى وضع الغائبة عن السهرة بما يطلقون عليه لقب المقلاية، وهي أن يتناولن امرأة غائبة عن السهرة بأوصاف وألقاب لا تخطر على بال، ولا يتركنها حتى تتشلفط كما يقولون.
ومن جهة أخرى، فلا تكاد سهرات نسوان تخلو من حكاية، ترويها إحداهن، وقد يسبق هذه الحكاية مقدمة أو ما يطلقون عليه اسم: دهليز الحكاية (مدخلها) وهذا الدهليز قد يقصر أو يطول، حتى لكأنه حكاية، ولعل من أجمل دهاليز الحكاية التي كانت بذلك الحين، ما يعرف بدهليز (كِتّ كتّان)، حتى يمكن أن نعتبره درة من درر الأدب الشعبي النسائي، لما كان عليه من صياغة بديعة ورصف وإيقاع، ومن ذلك قولهن بهذا الدهليز في وصف امرأة:
«صبية لبية تقول للقمر غيب، لأقعد مكانك قاضي ومفتي ونقيب (للأشراف)، عم تتمايل عنقود وخصلة والباقي فراطة.
كما كان للأحاجي (الحزازير) بسهرة النسوان، وقت غير قصير، لما كانت عليه الأحاجي من كلام منمّق، وجمل مسجوعة مترادفة، تعرف المستمعة بهذه السهرة عن مضمون الحزيرة، فتعمد إلى تأويل هذه الحزيرة إلى إجابة بعيدة عن مضمون الحزيرة المطروحة.
ومن الملاحظ أن أغلب هذه الحزازير ينحصر بما هو مأكول من طعام وشراب وتسالٍ، ربما هو منظور تراه العين مباشرة، إلا ما ندر، ومن ذلك قولهن عن حزيرة إعداد الجبن:
بصلنا زمك طله
وإن كان لك عاشق بلّه
وشمّر عن زنودك
وانزيل بعزمك كله
ولعل من أبدع ما تتناوله الساهرات، ما كان يرتبط بالمثل الشعبي، فتراهن يتبارين بهذه الأمثال على صعيد بداية المثل أو قفلته، أو مضمونه، مما ينتقد أو يتوافق مع سلوك أو موقف إزاء هموم ومصاعب الحياة أو مسراتها.
وكثيراً ما كانت النساء بهذه السهرة، من حيث المظهر والتعامل، يطلقن على الرجال ما كان لهم أن يطلقوه من ألقاب كلقب أبو كبير وأبو جاعوص وغير ذلك مما يثير الضحك ويعمل على النقد.
ذلك أن النسوة يعتبرن زمن السهرة وقتاً مستقطعاً، ليس له صلة بما يعانينه في الحياة العامة.