يبدو جليّاً، للباحث والمتابع، أن بريطانيا لم تشعر فيما مضى، كما أنها لا تشعر في وقتنا الراهن بالذنب لما اقترفته أيدي قادتها وسياسييها من جريمة، وأي جريمة بحق الفلسطينيين خاصة، والعرب عامة.
لقد كانت بريطانيا السبب المباشر والرئيسي في كل ما حدث، منذ نهايات القرن التاسع عشر، وما زال يحدث حتى اليوم، وربما كانت البداية مع السياسي المخضرم كامبل بنرمان المؤسس الأول لفكرة زرع كيان غريب في فلسطين يفصل بين عرب المشرق وعرب المغرب، لكي يسهل على بريطانيا في ذلك الزمن، مهمة الاستعمار في المنطقة وما وراءها، فضلاً عن تأمين طريق مواصلاتها إلى القارة الهندية، التي كانت تحكمها آنذاك، ولم تخرج منها إلا بعد أن قسمتها إلى هند وباكستان وبينهما كشمير، وفقاً لسياستها الأثيرة «فرق تسد» التي بموجبها قسمت قبرص بين يونان وأتراك، كما قسمت فلسطيننا بين أهلها العرب واليهود الغرباء الدخلاء.
ولكي تضفي على ما سوف تفرزه مؤامرتها من نتائج سمة من الشرعية الكاذبة، سعت مع دول غيرها إلى تنفيذ ما وعد به عام 1917 وزير خارجيتها الأسبق آرثر بلفور اليهود بوطن قومي لهم في فلسطين، وما أسسه البريطاني جورج سايكس مع الفرنسي فرانسوا بيكو في تقسيم المنطقة، بين فرنسا وبريطانيا توطئة لما كان العمل جارٍ عليه للوصول إلى هيئة الأمم الضالعة معهم بنفوذ أميركا وبريطانيا وغيرهما من دول الغرب، على تسليم فلسطين العربية ليهود جيء بهم من أرجاء شتى في الأرض، فكانت المحصلة هي ما آلت إليه من قيام كيان يهودي على أرض فلسطين تحت مسمى ديني زائف هو إسرائيل، وبقية الحكاية غير خافية اليوم على أحد.
لكأن بريطانيا لم تكتف، على الرغم من كل ذلك، بما ألحقته من أذى بأصحاب البلاد العرب والفلسطينيين، فما زالت تقوم حتى الساعة بمهمتها، بوسائل شتى بغية تعزيز الوجود الصهيوني، وإدامته إلى ما لا نهاية، إن استطاعت، إمعاناً في عدائها، وعدوانها المتواصل على الأمة العربية من جهة، وتحقيقاً لمآربها الاستعمارية من جهة ثانية.
لم تعتذر بريطانيا قطً عما فعلت، لكأنها لم تدرك، أو كأنها لم تبالِ، حتى الآن بهول الجريمة التي اقترفتها في حق شعب وأمة، بحيث رأينا رئيسة وزرائها تيريزا ماي تفاخر، في ذكرى قيام دولة «الوطن اليهودي البلفوري» بما أسمته «إنجاز بريطانيا العظيم في إقامة وطن لليهود في فلسطين هو إسرائيل وأنها عاشت لتراه».
بل إن ماي التي أقل ما يمكن أن توصف به، هو عدم الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية والإنسانية تجاه ما أوقعته دولتها بالفلسطينيين إذ وصل بها النفاق للإسرائيليين والتبعية لإدارة الرئيس الأميركي دونالد لترامب أن تدرج حزب اللـه الذي يقاوم آثار الجريمة البريطانية العظمى، على قائمة الإرهاب! فيا للعجب العجاب!
كما رأينا رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير كيف وضع نفسه في خدمة الصهاينة، بتحريضه الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن ودفعه إياه لإشعال تلك الحرب المدمرة على العراق، لا لشيء إلا لأن العراق، كما هو حال سورية، يشكل خطراً على الكيان الصهيوني المغتصب.
قد يتساءل المرء: لماذا لم يطالب العرب والفلسطينيون تحديداً، بمحاكمة بريطانيا أمام المحاكم والمحافل الدولية عما صنعت، بل هاهم يدعونها تمضي بجريمتها النكراء، وكأن شيئاً لم يكن؟ لماذا لم تُحمَّل بريطانيا صفة معاداة السامية، فنحن الساميون بحق، حيال هولوكست أشد فداحة مما حدث لأحبائها في عهد النازية، بحيث لا تزال اليهودية العالمية وإسرائيل خاصة، تعزف على وترها حتى الساعة، رغم الفارق الهائل بين ما حدث لهم على مدى سني الحرب العالمية المحدودة ببضع سنين وما حدث لنا على مدى قرن كامل على أيديهم؟ ولماذا لم يستطع العرب خلق عقدة ذنب لدى بريطانيا أسوة بما فعل اليهود مع دول الغرب قاطبة؟
هذه أسئلة، بل صرخة ينبغي إسماعها للعالم كله فلعل ذلك يجدي نفعاً في نهاية المطاف، بإعادة الحقوق إلى أصحابها، في هذا الزمن الميئوس من تحقيق أي عدالة في رحابه، ما دام هنالك حكام لدول كبرى أمثال دونالد ترامب وتيريزا ماي ونظرائهم الكثر.