لا يخشى الباحث الإسرائيلي إيلي بار أون المختص بالشؤون الاستراتيجية العسكرية، من الاعتراف في تحليل نشره في مجلة «إنتاج المعرفة» الصادرة بالعبرية قبل يومين بأن «إسرائيل فقدت تفوقها الاستراتيجي» وما تزال تراوح مكانها منذ سنوات بل إن وضعها من هذه الناحية بدأ يزداد سوءاً سنة تلو أخرى، ويعرض أدلة مستمدة من جدول عملها العسكري والسياسي مثل الموضوع الإيراني، ومثل موضوع قدرات الجيش السوري التي تتزايد دون أن تتمكن القيادة العسكرية الإسرائيلية من إيقاف أخطارها في أي حرب شاملة، وكذلك تزايد قدرات حزب الله وفشل أي خطة خارجية أو داخلية تجبره على التخلي عن صواريخه أو تخفيض قدراتها.
يقر بار أون أن آخر مجابهة بين قطاع غزة وإسرائيل حولت الفصائل الفلسطينية المسلحة إلى عامل قوة لا يمكن تجاهله بعد أن عجزت كل الحروب التي خاضها الجيش الإسرائيلي منذ عام 2008 ضد القطاع، عن إزالة وجودها المسلح ويتساءل: إذاً ما جدوى كل هذا التفوق العسكري الإسرائيلي وهو لم يستطع تحييد جبهة واحدة حتى حين يشن هجوماً عليها وحدها، والمقصود جبهة قطاع غزة.
يبدو أن هذا العرض يثبت تماما أن الكيان الإسرائيلي يعيش في دوامة متلازمة لا تنفك تولد دوامات أخرى، فهو يواجه الآن داخليا أكبر جائحة في تاريخه وهي انتشار الكورونا بمختلف أنماطها دلتا وأوميكرون، ويعطل ويشل نسبة كبيرة من عمل ونشاط المجتمع الاستيطاني دون أن يتمكن حتى الآن من شق طريق يتيح الحد من مضاعفاتها أو الخروج منها.
إن أشد خسارة إستراتيجية سيتعرض لها هذا الكيان هي إمكانية توصل إيران إلى اتفاق مع الغرب، فقد أعلن رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلي أول من أمس أنه يقبل بالأمر الواقع الناتج عن الاتفاق لأن الأسوأ منه على إسرائيل هو عدم الاتفاق، علماً أن حكومات إسرائيل دأبت على رفض أي اتفاق أميركي أو غربي مع طهران في الموضوع النووي وكانت تصر على أن الحل لن يكون إلا بشن حرب مباشرة على إيران وصواريخها ومفاعلاتها، ولذلك يؤكد بار أون أن إسرائيل خسرت حربها على طهران برغم كل ما حشدته من قوى غربية وأميركية ضدها.
الدوامة المتلازمة الثانية التي تشل قدرات إسرائيل فهي جبهة الشمال من حدود الجولان حتى جنوب لبنان، ويعترف مركز «هيرتسيليا للدراسات الاستراتيجية الأمنية» في مؤتمره السنوي في تشرين الثاني عام 2021 أن إسرائيل كانت في السابق تشن حرباً استباقية «وقائية» ضد أي طرف يهدد أمنها للتخلص من قدراته بسرعة وبحجم تدمير يمنعه حتى من الرد على جبهتها الداخلية، فإذا بها الآن تعجز عن ضمان نجاح أي ضربة استباقية فعالة وكذلك عن ضمان عدم تساقط آلاف الصواريخ من حزب الله على جبهتها الضيقة، وبخاصة إذا جاء الرد على إسرائيل من جبهة الشمال القريبة جداً من مراكز الكثافات الاستيطانية.
لا نبالغ إذا قلنا إن هذه الدوامة ما تزال إسرائيل تواجهها من جبهة المقاومة في قطاع غزة بنسبة لا بأس بها أيضا، وفي حال كهذا سيكون من المنطقي الاستنتاج بأن إسرائيل تحميها الآن القرارات الأميركية وليس القوات الأميركية، لأن الجيش الأميركي نفسه تعرض في العقدين الماضيين إلى هزيمة في العراق وانسحب منه وأخرى في أفغانستان وانسحب منها، وها هو لا يجد حلاً لحليفه الإسرائيلي ولا طريقا يحقق له الأمن الاستيطاني الاستعماري الذي لا يستطيع المحافظة على بقائه من دونه.
يبدو أن هذا ما كان يقصده الباحث الإسرائيلي إيلي بار أون من العنوان الذي اختاره لدراسته الموجزة وهو يخاطب المستوطنين «اقبلوا أسفي لأننا أخفقنا».