يُروى أن العُقاب الطائر الذي يقترب في حكايته من الخرافة لا يموت في السفوح والسهول والوديان، وإن تمكنت منه الكواسر الأخرى، أو نالته طلقة صياد فإنه يتابع رحلة طيرانه على الرغم من كل شيء، ليودع الدنيا في القمة العالية، هناك حيث لا يرقبه أحد، ولا تتناوله هوام الأرض، وربما كان طعاماً لمماثليه ليكسبهم صفة في الموت على القمة العالية دوماً، ويقال: حتى النسر لا يمتلك ما يمتلكه العُقاب، وهذه الصفة محيرة حقاً، ولكنني وجدت ما يماثلها أمامنا، إذ يحكى بأن شتى أنواع المخلوقات ترى ميتة، ولا يكترث لها أحد، وتقول كتب اللغة عن بعضها «نفقت» إلا الحصان، وقد سمعت من كبار في السن في صغري حكايات توارثوها عن«الجبخانة» وإعدام الأحصنة، وحين سألت كثيراً عن الموضوع والعلة التي تجعل هذا المخلوق الجميل بغرته وطلته وجسده يذهب إلى الإعدام كما الإنسان فقال لي أحدهم كان الحصان وسيلة القتال والفروسية، ولكن حين يبلغ الهرم، ويصبح غير قادر على خوض القتال والمبارزات يذهبون به إلى هذه المنطقة حيث يتم إعدامه والتخلص منه، وكان تعليله بأن هذا الحصان صارت تكاليفه أكثر من مكاسبه وبتعبير العامة، قال: «حين تصبح لقماته أكثر من شغلاته يذهب إلى الإعدام»!! هل هو القتل الرحيم؟
وماذا يفعلون بعد إعدامه؟
وهل هناك من يقوم على تلقينه كلام ما قبل الإعدام؟
كانت إجابة هذا الرجل مناسبة لآليات تفكيره المجتمعية، ولكنها لم تقنعني، ولا أتخيل أن يضحي الإنسان بالحصان الذي قاتل عليه وكسب رزقه منه بهذه الطريقة الجبانة عن تحمل مسؤولية الحامي عندما صار بحاجة إلى حماية ورعاية.
وبقيت زمناً على قناعة بأنهم يفعلون ذلك ليس للتخلص منه ومن أعبائه، وإنما لشرفه وسمو مكانته، فأراد الإنسان له نهاية لائقة تشبه نهايات الفرسان والنبلاء في ساحات المواجهة والقتال، وإن كان إعدامه يتم في الظل، ولا أحد يعرف مصيره بعد الإعدام سوى من أعدمه! وما دام الإنسان يستخرج جسداً من التراب، وربما باع جسداً أو عضواً من أجل المال فما عساه يفعل بالحصان، وما يملكه من جماليات لا يمتلكها الإنسان؟
في الحياة عرفنا كثيراً من الأحصنة وأشرف منها، ولكننا بما أننا لا نعرف كلنا قصة إعدام الأحصنة، فإننا لا ننتبه، وننهي حياة الأحصنة الأصيلة والكريمة كما ننهي حياة الكلاب الشاردة العقور بطلقة رحيمة أو غير رحيمة!
كثيرة هي الأحصنة، والأفراس سواء كانت ذكوراً أو إناثاً، لوثت جبهتها، وأحنت غرتها المحجلة، مهما كان لون هذه الغرة من أجل طفل صغير ومن أجل فارس من دون أن تكترث إن كان جديراً أو غير جدير، انحنت لإنسان قد يكون نبيلاً وقد لا يكون لكن أمرين جعلاها هكذا، الأول أن الأحصنة والأفراس بنبلها لا يمكن أن تتعامل إلا بالنبل، أما الثاني فهي تشبه الإنسان في وضع الاحتمالات، فهي تطمح وتطمع في أن يكون هذا الذي انحنت له وقدمت نبيلاً ليحميها، ويدللها كما فعلت!
الحياة لها خاتمة حتمية سواء قبلنا أم لم نقبل، سواء كنا نرى هذه النهاية من منطلق إيماني أم لا، فما من مؤمن بالله نفعه إيمانه وبقي مدة أطول مما هو مسموح به له، وما من ملحد أعانه إنكاره للخالق، وأفاده تمرده على الخالق بالبقاء مدة مهما كانت هذه المدة! النهاية حتمية وكل واحد يسير إليها بطريقته، وإن كانت أسمى الطرق الحب والخير والجمال، لكن حتى هذه الخصال العظيمة لا يمكن أن تعرف إلا بضدها! المهم أن الرحلة تنتهي بأي طريقة، وما من واحد عبر عنها أفضل من المعري عندما سخروا حين رأوه قائماً يصلي فقال:
قال المنجم والطبيب كلاهما
لن تبعث الأرواح قلت إليكما
إن صحّ قولكما فلست بخاسر
أو صح قولي فالخسار عليكما
ما دامت كذلك هي الحياة بكل تفاصيلها لماذا يتم إعدام الأحصنة؟
لماذا نذهب بالأحصنة إلى القتل، ولا ننظر إلى قوائمها التي حدوناها عشرات المرات كما نشتري الأحذية؟
إنها وضاعة الأخلاق لدى الإنسان إنه النبل والفروسية، وقلما تمنح صفة الفروسية لإنسان، فهل كان الإنسان ينتقم من الفروسية في فعله؟ ربما.. وتتوالى قوافل الأحصنة والأفراس.. والفروسية تغيب تدريجياً لتخلو منه مع ندرة الخصال..!