مع انتظار أن تفي تركيا بمتطلبات التقارب من دمشق، وهي الانسحاب من الأراضي التي تحتلها في شمال شرق وغرب سورية، والتخلي عن التنظيمات الإرهابية في تلك المناطق، خف صخب الحديث عن مواعيد اللقاء بين الجانبين، وبات الأمر بالاتجاه نحو كيفية تذليل الأمور لحدوثه، مع سطوع تحركات التنظيمات الإرهابية، وخاصة تنظيم «جبهة النصرة» على تخوم التغيرات الجيوسياسية التي افرزها التحول في النهج التركي من رأس حربة على سورية، إلى جار طبيعي وربما إذا حسنت النيات، حليف مرتقب.
من المؤكد أن هم رئيس الإدارة التركي رجب طيب أردوغان حصوله على ورقة، يمكن استخدامها كـ«جوكر» في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أيار المقبل، وفق الموعد الجديد الذي أعلنه أردوغان، سواء أكانت من اليد السورية، أم الأميركية، وهو ما أخفق في الحصول عليها من الأخيرة، عبر تجديد رفضها شن أي عملية عسكرية تركية على مناطق سيطرة ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية- قسد»، أو تقارب أنقرة مع دمشق، أخفق في الحصول على أي ورقة دعم أميركي، الأمر الذي بدا جلياً في تصريحات وزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو الذي تحدث عن الاستعداد للتعاون مع أميركا بشأن سورية، لكنه استدرك: «لكن واشنطن لم تفِ ببعض وعودها السابقة»، في إشارة إلى إبعاد ميليشيات «قسد» عن الحدود، ولاسيما في منبج بريف حلب.
قد يجد أردوغان التقارب مع دمشق، وتنفيذ بعض المتطلبات التي تساعد في ذلك، بشكل أولي، أسهل وأقرب، وتشكل ربحاً، أكثر من الخضوع للشروط الأميركية، التي تجعله يراوح في المكان، على جبهة «قسد»، الأمر الذي يلحق به الكثير من الضرر السياسي، ويجعلها أمام خسارة شبه مؤكدة في الانتخابات القادمة، أمام منافسيه الذين يمتلكون أوراقاً جمة ضده، مثل ورقة اللاجئين السوريين، والانفتاخ مع دمشق، والتقرب مع «الأكراد السوريين» بشكل أو آخر، وهذا بطبيعة الحال أمر يعيه أردوغان بشكل جيد، ما قد يدفع به إلى السير بشكل جدي أكثر على طريق أنقرة- دمشق، عبر فتح طريق حلب اللاذقية M4، كبادرة حسن نية وصولاً إلى سحب قواته المحتلة للأراضي السورية، مع حصوله على تأكيدات حول بسط الجيش العربي السوري على مناطق سيطرة ميليشيات «قسد» شمال شرق سورية، بما يعطي أنقرة شيئاً من الطمأنينة بما ينتابها من هواجس حول تعرض أمنها القومي للخطر.
مع محاولات أنقرة للبحث عن أرضية ما يجعل من طريقها مع دمشق سالكاً، ويدفع بها إلى تجاوز مرحلة الانتظار على مفترق الطرق والتردد، ثمة تحركات متسارعة تحصل على جبهة إدلب، إذ يعمل تنظيم «جبهة النصرة» الإرهابي على تسخين الموقف، وتصعيد الأمور، باتجاه خرق اتفاقية وقف إطلاق النار، وتكثيف عدوانه على مواقع الجيش العربي السوري، ومناطق سيطرة الدولة السورية، بالتوازي مع العمل على استقطاب المسلحين الموالين للإدارة التركية والرافضة للتقارب مع دمشق، وسعيه إلى قضم المناطق التي يسيطرون عليها ليكون التنظيم الإرهابي اللاعب الرئيس والأساس في المنطقة، ما يمكنه من استغلال ذاك الأمر في مفاوضاته مع أنقرة، في أي حل أو اتفاق سوف يكون مع دمشق، حيث شهدت الساعات الأخيرة قيام «النصرة» بشن حملة مداهمات طالت مقرات تابعة لـما تسمى «حركة أحرار الشام» في منطقة عفرين بريف حلب، بالتزامن مع حملة اعتقالات طالت عدداً من المتزعمين البارزين في «الحركة».
وعليه، فإن ثمة سؤالاً بارزاً، إلى أي مدى يستطيع «النصرة» الاستمرار في المنطقة، دون غطاء وحماية من أنقرة؟ وما المجالات المتاحة أمام الأخيرة، والحلول لإنهاء المظاهر المسلحة، والقضاء على الإرهاب في المناطق التي تحتلها من سورية، لتجيب «بي بي سي» التركية على لسان أحد ما يسمى قادة «المعارضة» قوله إن المسؤولين الأتراك طرحوا الأنموذج الذي استخدمته الحكومة السورية للمصالحة مع التنظيمات المسلحة في درعا، وأبلغهم أنه يمكن التفاوض على طريقة مماثلة إذا اتفقت الأطراف، بشروط. وفي إطار جهود بوساطة روسية، مع إمكانية اعتبار دمج ما يسمى «الجيش الوطني» في الجيش العربي السوري مع ضمانات معينة أمراً مرجحاً، ليبقى إلقاء السلاح والعبور إلى تركيا الخيار الأخير للملاذ الأمن للمسلحين الذين انتقلوا إلى إدلب وشمال حلب من مناطق سورية سابقة.
متغيرات جمة تشهدها المنطقة بما يتمحور حول سورية، بانتظار قادمات الأيام، لانجلاء الصورة بشكل كامل، حيث باتت بعض تلك الملامح بالاتضاح لجهة انفتاح العالم العربي على دمشق من جديد، بعد تخطي العديد من الدول العربية ما كان يسمى خطوط حمر أميركا إزاء سورية، وفي مجمل تلك الأحداث فإنه من المؤكد أن غداً لن يكون كسابقه من الأيام، فحركة المتغيرات الدولية، جعلت الجميع يعي أن حالة عداء سورية، أو عزلها عن محيطها، ليس في مصلحتهم ولا في مصلحة المنطقة، لطالما كانت دمشق دائماً رحى المنطقة، ونبضها الدائم، وما الحديث عن حراك على خط الدبلوماسية بين دمشق والرياض إلا أحد الجوانب الإيجابية في تفاصيل صورة الغد.