ما بعد عدوان جنين ليس كما قبله.. وعلى السلطة والفصائل أن ترتقي لمستوى التضحيات
| محمد نادر العمري
منذ عام 2002، سعت قوات الاحتلال الإسرائيلية ومؤسساتها الأمنية والاستخباراتية وبدعم مكثف من الحكومات المتعاقبة لفرض الأمر الواقع على جنين ومخيمها، إلى جانب باقي مدن ومناطق الضفة الغربية من خلال ما عرف بعملية «الدرع الواقي» لقمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، هذا الواقع تجلى في محاولة القضاء على أي مقاومة فلسطينية مهما كان شكلها وطبيعتها ومرجعيتها، فكان الرد المقاوم عبر تلقين جيش الاحتلال ضربة موجعة، فيما عرف بتلك الآونة بمعركة «جنين الكبرى» التي أدت لمقتل 23 من جنود الاحتلال، لذلك أجبرت تل أبيب السلطة الفلسطينية لزيادة التعاون الأمني معها، ولوحت باستخدام القوة الفائضة واستخدمتها رغم عدم جدوى نتائجها، إلى جانب نشرها للمستوطنات الصهيونية ضمن مناطق الضفة الغربية بهدف قطع التواصل بين هذه المناطق.
هذه الإجراءات الإسرائيلية السياسية والأمنية والعسكرية وحتى الاقتصادية التي تمس بتأمين المقومات المعيشية اليومية للمواطنين والعاملين الفلسطينيين في بعض المراحل، لم تحقق الآمال التي خططت لها القيادة العسكرية والسياسية للكيان المغتصب، بل جاءت بنتائج عكسية وتطورات سلبية، وبدأت مراكز الأبحاث تقرع خطورته بعد الإعلان عن تشكيل أول فصيل مقاوم مسلح عرف بكتيبة جنين عام 2021، ليتوالى بعد ذلك تطور نشاط العمل المقاوم واتساع وجوده والذي كان آخره الإعلان عن ولادة مجموعة عرين الأسود، وهو ما فسره تقرير إسرائيلي صدر عن «معهد أبحاث الأمن القومي» التابع لجامعة تل أبيب بأن «الوعي النضالي اتسع في جنين ومدن الضفة، وتغذى نتيجة ارتفاع مستوى الاحتكاك العنيف مع قوات الاحتلال ومن الفراغ السلطوي للسلطة الفلسطينية»، وهما عاملان ساهما من تطوير العمل المقاوم من العمل الفردي للعمل الجماعي المنظم.
تطور العمل المقاوم للقوى الفلسطينية الشعبية والحزبية إلى جانب تأزم الوضع السياسي لرئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو نتيجة تبنيها تغييرات قضائية، ووجود اليمين المتطرف الضاغط نحو ممارسة المزيد من الإجراءات العنصرية تجاه الفلسطينيين، دفع قوات الاحتلال منتصف التاسع عشر من حزيران الماضي لخوض مغامرة جديدة في جنين ومخيمها الذي لا تتجاوز مساحته كيلو متر مربع، لتحقيق بعض الإنجازات السياسية والأمنية هي متعطشة لتحقيقها في ظل تزايد رقعة التحديات الداخلية والخارجية التي تطوق حكومة الكيان القائمة والمؤسسات المختلفة.
ربما هذا التعطش لتحقيق أي إنجاز، دفع قيادة المؤسسات الأمنية والعسكرية للكيان لوضع ما يزيد على ألف جندي ومئة وخمسين عربة عسكرية لاجتياح المخيم الذي تعرض لقصف من سلاح الجو الإسرائيلي لأول مرة منذ عقدين، إلا أن النتائج لم تجرِ وفق ما تشتهيه الطموحات الإسرائيلية، بل على العكس من ذلك يمكن التأكيد على أن عملية الاجتياح الإسرائيلي والتي أطلق عليها تسمية «بيت وحديقة» كانت جحيماً ونكبة للصهاينة وفق عدة مؤشرات:
أولاً- منذ العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، وما تلاه من اعتداءات على قطاع غزة وصولاً لمعركة «سيف القدس» و«توحيد الساحات» وغيرها، لم يحقق الكيان الإسرائيلي أياً من الأهداف التي كان يتبناها خلال هذه الاعتداءات، لذلك هو لم يعلن عن أهدافه من اجتياح جنين مؤخراً سوى بعبارة «اقتلاع الإرهاب» وفق ما صرح به نتنياهو، لذلك فإن الكيان بات يخشى إعلان أهدافه من الاعتداءات العسكرية الأخيرة ضمن الخريطة الفلسطينية أو الخارجية، خشية من عدم القدرة على تحقيقها، أو الخوف من تعرض الحكومة والقيادة الأمنية والعسكرية للجان تحقيق على غرار لجنة «فينوغراد» التي تشكلت للتحقيق في هزيمة الكيان عام 2006.
فضلاً عن ذلك، وإن كان وصف نتنياهو «باقتلاع الإرهابيين» يقصد به القضاء على الفصائل المقاومة في جنين، فهو هدف لم يتحقق، والدليل على ذلك استمرار هذه الفصائل بالاشتباك مع القوات المجتاحة للمخيم حتى اللحظات الأخيرة من هذا العدوان.
ثانياً- يكمن هذا المؤشر في تطور العمل والمقدرات الذاتية للمقاومة، والتي ظهرت بداية من خلال استخدام المقاومين للعبوات الناسفة التي استهدفت عربات جيش الاحتلال قبل أسبوعين من هذا الاجتياح وأدت لعطب ست آليات، وهو ما دفع الاحتلال لتخريب البنى التحتية للطرق بنسبة تجاوزت 88 بالمئة، لتعطيل فاعلية هذه العبوات، واستخدام الطائرات المسيرة والطائرات الحربية لقصف المخيم بعد تهجير 4 آلاف من قاطنيه بهدف تدمير المخيمات، وهو الأمر الذي لم يتحقق سواء فيما يتعلق بتدمير البنى التحتية للطرق، فهي لم تشكل عائقاً أمام استمرار المقاومين من استخدام العبوات الناسفة، أم بفشل الطائرات من تدمير مصانع هذه العبوات، وهو ما أكدته «سرايا القدس» التي نشرت من داخل المخيم تسجيلاً مصوراً لاستئناف وحداتها عملية تصنيع مئات العبوات المتفجرة، استعداداً للمرحلة المقبلة.
ثالثاً- يبدو أن الاعتداء الأخير على جنين ومخيمها وربما لأسباب أخرى، دفع حركة حماس للخروج من دائرة حساباتها السياسية والضغوط التي تمارسها على أطراف إقليمية نتيجة ارتباطها الإيديولوجي بها أو المالي، وهو ما تمثل في تبني الفصيل المسلح للحركة العملية الفدائية النوعية التي حصلت في مستوطنة «كدوميم»، المستوطنة التي يعيش فيها وزير مالية الاحتلال اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش، والتي وصفها الإعلام العبري بأنها خروج حماس من سباتها.
رابعاً- إضعاف السلطة الفلسطينية وتقييدها بالتزامات خانقة، واستمرار فرض الاعتداءات وتصاعدها، وفرض المزيد من الحصار الاقتصادي على مدن الضفة، الذي ستكون نتائجه المزيد من العمليات الفدائية من الجيل الذي كانت إسرائيل تمني نفسها بأن يكون جيل الاستسلام أو التطبيع، وخاصة أن المؤشرات الإحصائية الإسرائيلية تؤكد أنه منذ عام 2020م حتى الربع الأول من هذا العام، 89 بالمئة من منفذي العمليات الفدائية هم شبان تحت سن 26 عاماً.
يتجاوز انتصار المقاومة في جنين أي جدل عسكري أو أمني، فالسعي المتسارع لحكومة نتنياهو لتصدير الأزمة الداخلية المتفاقمة لم تنجح، بل عادت شوارع الأراضي المحتلة إلى اتساع رقعة الاحتجاج بها للضغط على نتنياهو لعدم تبني التغيرات القضائية، وفي ذات الوقت، بات الائتلاف الحاكم الذي دعم نتنياهو بتشكيل الحكومة عبئاً عليه، من حيث ممارسة ضغوطهم للقيام بعمليات عدوانية أو بتلويحهم بإسقاط الحكومة في حال توجه نتنياهو لتجميد إقرار التعديلات أو تأجيلها.
تصدي المقاومة في جنين وانتصارها رغم الخراب الذي خلفه هذا الاجتياح الإسرائيلي، سيدفع المزيد من الشعب الفلسطيني للانخراط في العمل المقاوم، وهو ما سيضعنا أمام أحد السيناريوهات: إما اندلاع انتفاضة ثالثة أو تزايد عدد العمليات الفدائية أو كليهما، وفي ظل العجز الإسرائيلي لتحقيق أهدافه في جنين وتزايد تأزيم الحلول السياسية الداخلية، قد يلجأ نتنياهو نحو جر المنطقة لمآزق خطير، لذلك على السلطة والفصائل الفلسطينية أن يدركوا خطورة المرحلة، وأن يزيلوا كل خلافاتهم السلطوية والشخصية والإيديولوجية وغيرها، للارتقاء إلى مستوى التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني عموماً، إضافة إلى المقاومين في جنين الذين هندسوا معالم مختلفة من المواجهة «الاشتباك» التي تختلف عما سبق.