لا تزال الولايات المتحدة في حربها ضد روسيا تستخدم عدداً من الدول الأوروبية وحلف الأطلسي وتجعل منها جبهتها الأمامية في هذه الحرب، وبهذه الطريقة تنأى بقوتها البشرية العسكرية عن مهام حربية مباشرة في الساحة الأوروبية الروسية وتحاول إقناع أوروبا بأن تعد نفسها لحرب ضد الصين في قارة آسيا لكي تدفع معها ثمن حربها على الجبهة الصينية أيضاً، لكن تطورات الحرب التي تشنها واشنطن على روسيا بهذه الطريقة بدأت تدل منذ بدايتها في شباط من العام الماضي على أنها تصر على استمرار الحرب الأوروبية ضد روسيا من دون توقف في ساحتها المباشرة في أوكرانيا، وتطلب من الدول الأوروبية تصعيدها وتوسيع رقعتها، وتتبع واشنطن بالمقابل سياسة عدم حرق كل أوراق علاقاتها مع الصين رغم تزايد تهديداتها وزيادة استخدام تايوان ساحة لهذه الحرب الأميركية بل هي تفتح في الوقت نفسه مجالاً للتفاوض وتبادل الزيارات مع القيادة الصينية على حين أنها تمنع علناً عن الدول الأوروبية وعن أوكرانيا نفسها، فتح أي نافذة تفاوض مهما كان حجمها بين هذه الدول وموسكو.
الهدف الأميركي من كل هذه السياسة هو تجربة كل الأسلحة التي تستخدمها أميركا وأوروبا في أوكرانيا في الحرب ضد روسيا ورؤية مدى فعاليتها في الميدان المباشر، واستنزاف الجيش الروسي وقدراته العسكرية، ولا أحد يشك أن واشنطن ستحاول تجنب حرب عالمية على جبهتين روسية وصينية في آن واحد مهما كان عدد الدول الأوروبية المتحالفة معها، ولذلك من المتوقع أن تتمسك بسياسة منع أي مفاوضات قد تلجأ إليها أوكرانيا أو بعض الدول الأوروبية للبحث عن حلول وسط مع موسكو، وهذا ما أكده وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين بموجب تصريحات كثيرة نشر بعضها نيد سنايدر في مجلة «أنتي وور» الأميركية الإلكترونية في 12 أيلول الجاري حين قال بلينكين إن واشنطن ستظل ترسل كل أنواع الأسلحة التي تحتاجها أوكرانيا لتحقيق الأهداف المطلوبة ولن تقبل بالتفاوض في هذه الظروف، وهذا ما جعل رئيس أوكرانيا فلادمير زيلينسكي يتبجح في مقابلة أجرتها معه قناة «سي إن إن» الأميركية قبل أسبوع ويقول إنه لن يقبل بالمفاوضات مع موسكو إلا بشروطه، وهذا يعني بالشروط الأميركية، علماً أن واشنطن لا تزال تصر عليه برفض أي مفاوضات مع موسكو وتمنع أوروبا من التوسط أيضاً.
لا شك أن استعراضاً سريعاً لنتائج هذه الحرب على روسيا يدل على أن أوروبا وأوكرانيا هما اللتان تدفعان ثمن هذه الحرب لأن قدرة الردع الروسية والإنجازات التي حققها الجيش الروسي في ميدان الحرب أثبتت بعد مرور سنة ونصف السنة أنها ولدت انقساماً بينهم وتفتتا في جبهة زيلينسكي الداخلية وهذا ما دفعه في 10 أيلول الجاري إلى التصريح لمجلة «الايكونوميست» بأن «اللاجئين الأوكرانيين في أوروبا سيتوجهون نحو العمل الإرهابي (ضد أوروبا) إذا خفضت أوروبا المساعدات»! ويبلغ عدد اللاجئين المسجلين في الدول الأوروبية ستة ملايين، وهو تهديد لا قيمة له لأن الأوكرانيين في أوروبا لن يتخلوا عن امتيازات وجودهم في أوروبا وخاصة لأنهم يرون امتناع عشرات الآلاف من المطلوبين الأوكرانيين للخدمة الحربية ومغادرتهم البلاد لأنهم لا يجدون في حربهم ضد روسيا أي جدوى ولن يتحملوا الأعباء الاقتصادية التي ولدتها الحرب، وهذا ما بدأ يدل على انهيار معنويات القوة البشرية الأوكرانية وعن الكشف عن تواطؤ ضباط أوكرانيين بالحصول على الرشوة مقابل إعفاء الشبان من الخدمة، وبسبب خوفه من توقف المساعدات قال زيلينسكي في المقابلة: «إن كل من لا يقف مع أوكرانيا سيكون في هذه الحال إلى جانب روسيا وإذا لم يقدم الشركاء لنا المساعدات فهذا يعني أنهم يساعدون روسيا على كسب الحرب والانتصار».
لقد أصبح من الواضح الاعتقاد الآن أن مؤامرة واشنطن وأوروبا لاستخدام أوكرانيا جبهة حرب ضد روسيا بدأت مظاهر انهيارها تظهر تدريجياً ولن تجد الدول الأوروبية أمامها حتى نهاية هذه السنة بموجب تقديرات متزايدة في أوروبا سوى التفاوض وضمن الوضع الراهن مع موسكو لكي يتجنبوا المزيد من الخسائر.