على الرغم من الاستقبال الحميم نسبياً الذي لقيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سوتشي، أمام عدسات الكاميرات، من جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلا أن نتائج القمة لم تمنح الرئيس التركي ميزةً إضافية طبعت العلاقة الروسية التركية خلال مجمل الاجتماعات الأخيرة على مستوى القمة، وخاصةً بعد العملية الروسية العسكرية في أوكرانيا، حيث لم يمنح الرئيس الروسي الدور الذي يريده أردوغان في اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية قبل تحقيق مطالب روسيا كاملة، وهي مطالب لا يُعتقد أن أردوغان يستطيع دفع الدول الغربية إلى قبولها.
بعد نجاحه في انتخابات أيار الماضي، انقلب الرئيس التركي على علاقته المميزة مع روسيا، حيث وافقت أنقرة على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي، واستأنفت الحوار مع الولايات المتحدة، وأعلنت أنها تريد إحياء مفاوضات انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وسلّمت بعض عناصر كتيبة آزوف الأوكرانية إلى الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي فيما اعتبر حينها ضربةً كبيرةً للعلاقات الروسية التركية، كما أن أنقرة صوتت لمصلحة قرارات الأمم المتحدة التي تدين الغزو الروسي، وتبنت قرارات حلف شمال الأطلسي، وأغلقت المضائق أمام الأسطول الروسي الثاني المتجه نحو سيفاستوبول، وسلمت طائرات من دون طيار وعربات مدرعة إلى أوكرانيا. لكنها، في الوقت ذاته، لم تعتمد أي عقوبات أو تنشر أي وحدة عملياتية تابعة لحلف شمال الأطلسي بين إستونيا ورومانيا، وساعدت روسيا في الالتفاف على الحظر المفروض على صادراتها من النفط الخام، وفي الوقت نفسه، زاد اعتماد تركيا على روسيا: شراء الغاز والنفط بمدفوعات مؤجلة، ومحطة الطاقة النووية المملوكة لروسيا، والصادرات السياحية والزراعية، والصواريخ الروسية، والحفاظ على الوضع الميداني في سورية، وعند هذه النقطة الأخيرة تبدو العمليات المشتركة السورية الروسية لضرب المجموعات الإرهابية في إدلب رسالةً واضحةً موجّهةً إلى الرئيس التركي في ضوء الخطوات التي اتخذها بعد انتخابه في تفضيله لعلاقاته مع الغرب على موسكو أولاً، وثانياً، العودة إلى خطابه القديم في الملف السوري، وحتى استغلاله التطورات الأخيرة في المشهد السوري في الشرق والجنوب لتحريك بعض المجموعات الإرهابية في شمال غرب سورية.
لكن هل الأحداث السابقة ستغيّر في خيارات تركيا السياسية، وهل هذا التحوّل في العلاقة مع روسيا، والذي ينعكس على سورية بشكلٍ طبيعيّ، هو تحوّل إستراتيجي لا رجعة عنه؟
أفرزت الانتخابات الرئاسية والتشريعية في تركيا والتي فاز فيها أردوغان وحزبه، على الرغم من تراجع نفوذه، وظهور منافسين جدّيين على الحكم في تركيا، والتوازن في البرلمان التركي الذي لا يطلق يدّ أردوغان نهائياً في اتخاذ القرار، أفرزت صورةً للحكم أكثر قومية. فتركيبة التحالف البرلماني حول حزب العدالة والتنمية، أصبحت أكثر قومية ومحافظة، وهو ما سيؤثر في قرارات السياسة الخارجية.
يدرك الرئيس التركي أن خطوة قبول السويد في حلف الأطلسي ستمر بمراحل قانونية وعملياتية يفرضها برنامج الانضمام أقربها في تشرين الأول المقبل حيث سيعرض الملف على البرلمان السويدي، كما أن الإعلان عن إعادة إحياء ملف الانضمام التركي إلى الاتحاد الأوروبي لا يزال مجرد إعلان تكتيكيّ، في ظل إدراك الرئيس التركي لعدم تغيّر القرار الأوروبي من مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد، وبالتالي فإن الإيحاء بالتوجّه غرباً لا يعدو عن كون بالون اختبار لابتزاز الدول الغربية في ملفاتٍ أخرى، وعلى رأسها الاقتصاد من ناحية. ومن ناحيةٍ أخرى، يحاول أردوغان توظيف الهامش الدبلوماسي لبلاده في لعبة ابتزازٍ مزدوجة في الصراع بين الشرق والغرب، وهذا أمرٌ لا يمكن إسقاطه من الحسابات لأنه يشكّل مركز التفكير السياسي لأردوغان.
المشهد السياسي التركي الداخلي المعقد، وتركيز أردوغان على التجارة والصناعة الدفاعية، كون الاقتصاد التركي يعاني، وملف المفاعل النووي التركي الذي تبنيه روسيا، جملة أمورٍ دفعت الرئيس التركي أكثر فأكثر إلى محاولة التوجّه شرقاً بشكلٍ عام، فإذا اعتبرنا أن أردوغان يهوى السير على الحبال فهو حكماً ليس في منتصف الحبل اليوم، وهو لا يستطيع من المنظور الإستراتيجي البحت أن يكون في المنتصف، بل إن المؤشرات عامة، معطوفةً على نتائج الانتخابات توحي بأنه يعتمد تكتيك السير على الحبال مقيّداً بمشاكل داخلية على رأسها الاقتصاد واللاجئين السوريين، وشكلٍ لتوازنات الحكم يجعله أكثر ميلاً للسياسات التي تركز على الشرق عموماً، وفي هذا السياق يرى سفير الاتحاد الأوروبي السابق في تركيا مارك بيريني أن «السياسة الخارجية التركية خلال الفترة 2023-2028 ستكون أكثر تركيزاً على الأتراك وستعطي الأولوية لمنطقة نفوذ أنقرة، شمال قبرص، والجمهوريات الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى، وجنوب القوقاز، ودول الخليج، والدول العربية الأخرى (مصر، ليبيا، سورية)، والدول الإفريقية – والعلاقات مع روسيا».
الرئيس التركي يتولى مسؤولية دولة مختلفة تماماً عن دولة عام 2018، فالاقتصاد يتراجع بسبب السياسة النقدية غير العقلانية التي تولد التضخم، والوسائل المالية المستخدمة لتغطية العجز ليست مستدامة على المدى الطويل، والاستثمار الأجنبي الغربي متردّد نتيجة السياسة التركية المتوازنة بين حلف الأطلسي وروسيا، وشعار الاستقلال الإستراتيجي الذي يحاول أردوغان العمل عليه في سياق صياغة الدور التركي في الإقليم والعالم، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن المشكلة الناشئة التي تواجه الرئيس التركي في مرحلة ما بعد الانتخابات هي الثقة التي يبدو أن الطرفين الروسي والغربي وفي إطار الصراع على تركيا ودورها فقداها تدريجياً، بمعنى أن التردّد الذي يبديه الغرب في التعامل مع تركيا رغم كونها دولة أطلسية أمرٌ ثابتٌ منذ سنوات، والخلاف الأميركي التركي لا يزال خلافاً أساسه الثقة المفقودة بين الطرفين، وفي ضوء المستجدات الأخيرة ونتائج قمة سوتشي بين الرئيسين بوتين وأردوغان من الواضح أن الثقة تراجعت إلى حدٍّ ملحوظ، وبدأ الرئيس التركي بالتحرّك لاستعادتها عبر اتخاذه موقفاً واضحاً من العمل باتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية، وتبني وجهة نظرٍ أقرب إلى الموقف الروسي تتهم ضمناً الدول الغربية بتعطيل الاتفاق.
مما لا شك في أن الأوراق التي تملكها روسيا في مواجهة محاولات أردوغان تعديل كفتي الميزان في العلاقات بينها وبين الناتو، أوراقٌ مهمة تبدأ بالاقتصاد، والمفاعل النووي، مروراً بالأدوار التي تمنحها موسكو لأردوغان في أوكرانيا من ملف الغاز الدولي والحبوب وليس انتهاءً بسورية التي تبقى أحد أهم أوراق الردع الروسية في إدارة العلاقة مع الرئيس التركي، حيث يتعدى الملف السوري بالنسبة له إدارة اللعبة الميدانية في مناطق التماس والنفوذ الروسي التركي كما في ليبيا على سبيل المثال، فقضية اللاجئين السوريين في قلب الغضب الشعبي من أردوغان. ويلقي الكثيرون باللوم على أردوغان وسياسته في قبول ملايين اللاجئين، حيث يعتقدون أن اللاجئين يستنزفون الموارد الوطنية الشحيحة التي ينبغي تخصيصها بدلاً من ذلك للمواطنين الأتراك، ومنذ انتخابات أيار في تركيا، التي منحت أردوغان خمس سنوات أخرى كرئيس، يطالب المواطنون أردوغان بالوفاء بوعده بحل مشكلة اللاجئين، وهذه قضية لن تحل من دون سورية وروسيا مهما حاول الرئيس التركي تنويع تحالفاته، وهي قضيةٌ مركزية بدأت تؤثر في تماسك البيئة الحاضنة لأردوغان وحكمه، وهي ورقة مهمة بيد المعارضة التركية، وحلهّا لا يمكن أن يتم دون دمشق وموسكو.
إضافة إلى القضية الكردية التي تعتبر أحد أهم أدوات الخطاب السياسي الداخلي التركي، فضلاً عن أنها في بنية العقل السياسي التركي، وأيضاً لا يمكن أن يتم حلّها دون دمشق وموسكو، في ضوء الموقف الأميركي الأوروبي الواضح والصريح والمعلن دون مواربة في دعم ميليشيا وحدات الحماية الكردية في سورية في وجه أي طرفٍ آخر.
مما لا شك في أن العلاقات الروسية التركية اليوم ليست في أحسن أحوالها، والرئيس التركي الأكثر ممارسةً للانتهازية السياسية بدأت اللعبة ترتد علي فيما يخص الثقة تحديداً، لكن الابتعاد عن قوة عالمية بحجم روسيا ليس أمراً متعلقاً بقرارٍ سياسيّ، ومناطق التماس بين روسيا وتركيا، والمصالح الاقتصادية الثابتة، والأدوار الناشئة إقليمياً وأوروبياً، وحتى دولياً، ملفات تجعل من العلاقة بين الدولتين أمراً حيوياً استراتيجياً يبقي المجال مفتوحاً أمام تطور علاقاتهما، ولكن دون أن يعني ذلك تراجع الكرملين عن مصالحه الحيوية في العالم عموماً، وفي سورية خصوصاً.