في غضون أسبوعين تعرضت القاعدة التركية غير الشرعية بـ«خاركوف» شمال العراق لهجومين نفذهما مقاتلون تابعون لـ«حزب العمال الكردستاني»، الأول يوم الـ23 من كانون الأول الماضي وقضى فيه اثنا عشر جندياً تركيا، فيما قضى في الثاني الذي وقع يوم الـ12 من كانون الثاني الجاري تسعة جنود، وكالة أنباء «الفرات» المقربة من «حزب العمال الكردستاني» كانت قد تبنت الهجومين سابقي الذكر بعد أن وضعتهما، وفي الأمر ما يدعو إليه، في سياق «مقاومة الاحتلال التركي» الذي تبيحه شرائع السماء وتشرعنه قوانين الأرض، لكن على الرغم من ذلك فإن التوقيت، وكذا المعطيات الراهنة، يشيران إلى دوافع آنية كانت قد اقتضت الذهاب نحو ذاك التصعيد.
في التوقيت يبدو أن قيادة «جبال قنديل» ارتأت أن تصعيداً «منضبطاً» ضد القوات التركية بشمال العراق يمكن له أن يكبح جماح الأخيرة التي اندفعت بشراسة معهودة لتنفيذ سلسلة من الهجمات ضد مواقع سيطرة «قوات سورية الديمقراطية – قسد» شمال شرق الفرات السوري منذ أن قامت «الإدارة الذاتية» بعقد مؤتمرها الرابع يوم الـ20 من كانون الأول المنصرم والذي استبقته بالإعلان عن «تغييرات هيكلية» في قيادتها أريد من خلالها إرسال إشارة للحكومة التركية مفادها «طمأنتها» بشأن سقوف المشروع وأهدافه، وما جرى هو أن الرسالة جاءت بمفعول عكسي كان قد تمظهر تصعيداً عسكرياً تركياً يبدو أنه سيطول وفقاً لـ«الصمت» أو «التجاهل» الذي أظهرته الإدارة الأميركية تجاهه، وفي المعطيات يمكن الجزم بأن المنطقة تبدي نوعاً من الهشاشة التي وصلت فيها تركيبتها حد «القوام العجيني» الذي يتيح التحكم بقوام وأشكال «المنتج»، ولربما شكل هذا الفعل الأخير عاملاً، جنباً إلى جنب «الصمت» الأميركي المقلق للقائم بالفعل، محفزاً للدفع نحو التصعيد للشد بواشنطن نحو اتخاذ مواقف أكثر «جدية».
بعد ساعات من الهجوم الثاني، في الـ12 من كانون الثاني الجاري، عقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اجتماعاً أمنياً ضمه إلى جانب وزير دفاعه وداخليته وكبار قادة جيشه واستخباراته، وقد توصل المجتمعون وفقاً للتقرير الذي نشرته «وكالة الأناضول» التركية إلى أن «تركيا لن تسمح قطعاً بإنشاء إرهابستان على حدودها الجنوبية مهما كانت الأسباب والذرائع»، كما شددوا على «مواصلة مكافحة تنظيمي PKK وPYD الإرهابيين وداعميهما»، ولم تكد تنقضي ساعات على فض الاجتماع حتى ظهرت التفاصيل التي لم يكشفها تقرير «وكالة الأناضول» سابق الذكر، وعلى مدى ثلاثة أيام سيقوم الطيران الحربي التركي، والمسير، باستهداف «أكثر من 80 هدفاً بينها منشآت خدمية واقتصادية ونقاط عسكرية ومدنية في مناطق سيطرة «قسد» في مدن وبلدات الشمال السوري»، وفقا لما أعلنه التلفزيون التركي الرسمي، أما مصادر إعلام «الإدارة الذاتية» فقالت: إن «الهجمات التركية تسببت بخروج 31 محطة مياه و11 محطة كهرباء وعشرات الآبار النفطية من الخدمة»، ولم تنسَ تلك المصادر أن تذكر بأن تلك الهجمات تهدف إلى «احتلال مناطق أخرى والقيام بعمليات تهجير جماعي وتغيير ديموغرافي من جديد»، وإذا كان من المؤكد أن هذا التقييم الأخير يتسم بدرجة واقعية جيدة لكن السؤال هو: من ذا الذي يقدم كل هذي الذرائع والمبررات لكي تقوم أنقرة بكل تلك الأعمال؟ أليست «قسد» ومنظومتها الأم القابعة بجبال قنديل هما اللذان يقدمان كل ما تستوجبه المخططات والمشاريع التركية لكي تصبح «مبررة» أقله من وجهة النظر التركية؟
من دون شك تعمل «قيادة الظل» للمشروع الذي تديره «قسد» في مناطق الشرق السوري على هدف كبير هو أن تستطيع الشد بالولايات المتحدة بعيداً عن تركيا، والمشروع إياه يقوم على اللعب بـ«ورقة داعش» التي تؤمن دوام الحصول على الحماية والدعم الأميركيين من جهة، ومن جهة ثانية يقوم على تفكير أميركي سبق وافتضحته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، التي قالت في مذكراتها التي نشرتها بعيد مغادرتها لمنصبها، العام 2013: إن «الولايات المتحدة كانت على وشك الاعتراف بدولة إسلامية تمتد أراضيها على أجزاء من سورية والعراق»، والمؤكد هو أن التفكير «القائم على المشروع» كان قد استشرف أمران من هذا القول، الأول أن الولايات المتحدة لا مانع لديها من كسر حدود اتفاقية «سايكس بيكو» 1916 التي رسمت الدول والكيانات القائمة في المنطقة بشكلها المعروف راهناً، والثاني إذا ما كان الأمر كذلك فلماذا لا تكون هناك «دولة كردية» على الجغرافيا نفسها التي كانت ستعترف بها لـ«داعش»؟
هذا التفكير ساذج، والقائلين به غير مدركين للظروف التي دفعت آنذاك بواشنطن للتفكير بذلك الأمر، آنذاك كانت الأخيرة تتبنى «طبعة» الإسلام التركية وتريد تسويقها على امتداد المنطقة حيث تكون «صدامية» مع إيران، و«مسالمة» مع إسرائيل، بمعنى أن الأمر برمته لم يكن ليخرج من تحت «الجلباب» التركي، وهذه يجب أن تبقى راسخة لدى صانع القرار الذي يدعي أنه يمثل «الشعب الكردي» أو حتى جزء منه، ومن دون ذلك سيكون ذلك «الصانع» كمن يقرر الخوض بقارب زنته لا تتعدى الكيلوغرامات، حاملاً جمهوره عليه، في بحر تقول مواقع الأرصاد أنه مقبل على «نو» متعالٍ، ولا ينصح فيه «البحارة» بمغادرة مراكبهم للميناء.
كاتب سوري