كثر في الآونة الأخيرة تداول ما يمكن تسميته تأزم وضع ومكانة وتأثير رئيس الحكومة الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو، حتى ذهب البعض لوضع مسار عدٍّ تنازلي لبداية نهاية الحياة السياسية له، على حين جزم البعض الآخر من حيث حتمية مثوله أمام القضاء ومحاسبته نتيجة ما ارتكبه من قضايا عدة تتعلق بالفساد.
نتنياهو الذي بات يعد أكثر الشخصيات السياسية الإسرائيلية حكماً في تاريخ هذا الكيان متخطياً خمسة عشر عاماً بفترات متقطعة، ومتجاوزاً فترة حكم أول رئيس حكومة لهذا الكيان ديفيد بن غوريون الذي بقي في سدة الحكم حينها 4876 يوماً، أي أكثر من 13 عاماً، حقيقة هو اليوم في وضع سياسي وحزبي ليس بأحسن حالاته، وخاصة أن تسارع وتزايد الرفض الاستيطاني لبقاء نتنياهو بالسلطة يعود لما قبل بدء عملية «طوفان الأقصى»، إذ مثل تمسك نتنياهو بمطالب وتوجهات حلفائه في الائتلاف الحكومي من اليمين المتطرف بما عرف بالتعديلات القضائية المتعلقة بوضع حد للصلاحيات الخاصة بالمحكمة العليا وتقليص دورها فيما يخص قرارات الحكومة، نواة الاحتجاجات الداخلية الرافضة لاستمرار بقاء نتنياهو بالسلطة، حتى إن إصراره على هذا التوجه والمطالب المرفوضة من شريحة كبيرة من المستوطنين والأحزاب اليسارية المعارضة داخل إسرائيل وخصومه التقليدين، كادت أن تدخل هذا الكيان في دوامة الفوضى، بعد اتساع دائرة المظاهرات الأسبوعية التي تجاوز عدد المشاركين في إحداها لما يزيد على 400 ألف متظاهر صهيوني.
وعلى الرغم من مساعيه لاستثمار ما حصل بعد عملية «طوفان الأقصى» من تشكيل مجلس الحرب واستقطاب بعض الشخصيات المعارضة لصفوف هذا المجلس، وعودة المياه الدافئة للعلاقة بينه وبين رئيس الولايات المتحدة الأميركية جو بايدن، إلى جانب مساعيه لتقديم نفسه كبطل قومي لليهود ومخلص لهم في تأمين حياة آمنة ومستقرة «وفق أحد توصيفاته الصحفية»، إلا أن نتنياهو الذي حاول نثر المسؤولية على الجميع ساعياً للتملص من مسؤولياته، لم ينجح في تحسين وضعه السياسي نتيجة العديد من العوامل والأسباب التي يتمثل أبرزها في:
1. نتنياهو الذي انبرى لوسائل الإعلام بعد أكثر من 36 ساعة من بدء عملية طوفان الأقصى، واعداً بخوض حرب حاسمة ضد قطاع غزة للانتقام مما جرى في السابع من تشرين الأول من العام الماضي من خلال القضاء على حركات المقاومة الفلسطينية، وهادفاً لاستعادة الأسرى الصهاينة الذين احتجزتهم المقاومة، ها هو اليوم وبعد مرور أكثر من 110 أيام، لم يستطع تنفيذ أي من وعوده العلنية وغير العلنية، وهو ما عزز وجهة نظر الرأي العام الإسرائيلي بأن «رئيس حكومتهم هو شخص كاذب ويمارس الخداع ليس مع نظرائه الخارجين أو حلفائه السياسيين فقط بل مع شعبه»، وفق ما عنونته صحيفة «هآرتس» نهاية شهر كانون الأول من العام الماضي، الأمر الذي جعل 44 بالمئة من الإسرائيليين يرون أن سياسة الحكومة التي يرأسها نتنياهو لا تشعرهم بالأمان نتيجة فقدان الثقة والشفافية وفق استطلاع للرأي أجرته جامعتا تل أبيب منتصف الشهر الجاري.
2. بات واضحاً لدى أهالي الأسرى الصهاينة المحتجزين لدى فصائل المقاومة، أن نتنياهو لا يهتم ولا يكترث لحياتهم بقدر اهتمامه وحرصه على استمرار العدوان على قطاع غزة لتحقيق مصالحه الشخصية على المستوى السياسي، وهو ما أكده العديد من الشخصيات السياسية المعارضة لنتنياهو مثل زعيم المعارضة يائير لابيد وأفيغادور ليبرمان وغيرهم، وإن كانت تصريحاتهم لأهداف انتخابية، إلا أن الوقائع تشير لذلك وتؤكدها استناداً إلى العديد من النماذج التي شهدها العدوان على قطاع غزة من بينها تبني «بروتوكول هانيبال» بداية العدوان، ومن ثم رفض نتنياهو الدخول بأي صفقة جديدة مع الفصائل المقاومة بعد الهدنة المؤقتة الأولى، بذريعة عدم موافقة نتنياهو على شروط الفصائل المقاومة.
3. اتساع حجم المستوطنين الرافضين لوجود نتنياهو في السلطة من فئة أهالي الجنود المتطوعين أو الاحتياط داخل قوات الاحتلال، ولاسيما بعد تزايد عدد الجنود القتلى لما يقرب من 600 ضابط وجندي منذ عملية «طوفان الأقصى» وفق الإعلام الإسرائيلي، على حين أن موقع «واللا» الإسرائيلي توقع إصابة 30 ألف جندي إسرائيلي بإعاقة دائمة، واعتبار هذه الفئة من المستوطنين أن أبنائهم يقتلون ليس من أجل تحقيق الأمن لإسرائيل بل لبقاء نتنياهو في السلطة.
هذه المؤشرات الثلاثة وغيرها شكلت عاملاً مؤثراً في تأزم وضع نتنياهو على الصعيد الداخلي إلى جانب التطورات الدراماتيكية من مواقف متبدلة ومتسارعة على المستوى الدولي، ما أدى إلى تصاعد وتيرة الغضب الاستيطاني الذي وصل حد إغلاق الطريق الواصل إلى وزارة الدفاع الإسرائيلية واللجوء نحو اعتصام مفتوح، في أثناء الحرب، أمام مقر إقامة نتنياهو احتجاجاً على إخفاق إدارته للحرب على غزة وبقاء الأسرى لدى فصائل المقاومة، إلا أن ذلك لا يعني بأن نتنياهو سيرفع الراية البيضاء ويسلم بالأمر الواقع معلناً استسلامه المرير، بل على العكس، لدى رئيس الحكومة العديد من الخيارات والوسائل المؤثرة التي من شأنها أن تقلب الطاولة على الجميع في حال شعر نتنياهو بأن الطريق بات مسدوداً أمامه، حيث تتجلى أهم هذه الوسائل في مروحة من المسارات أهمها:
أولاً- في الخطاب الأخير لنتنياهو، وإن كان موجهاً لكل الإسرائيليين، إلا أن المختصين في الشأن الإسرائيلي يدركون أن صلب الخطاب كان هدفه الحفاظ على استقطاب تأييد الناخبين اليمينين، وهذا ما أظهره تأكيد نتنياهو على التمسك بإيديولوجية هؤلاء والمتمثلة باستمرار العدوان بغض النظر عن النتائج والتداعيات، ورفض قيام أي دولة فلسطينية، وفرض السيطرة الأمنية على غرب الأردن.
ثانياً- قد يبدو نتنياهو في بعض المواقف بأنه شخص ضعيف وضمن تأثير وهيمنة اليمين السياسي المتطرف، والخانع لأجنداتهم أمثال زعيم حزب الصهيونية الدينية ووزير المالية بتسلائيل سموتريتش ووزير الأمن ايتمار بن غفير وغيرهم، إلا أنه في الجانب الآخر قد يكون نتنياهو أكثر حنكة في توظيف تطرف هؤلاء على المستويين الداخلي والخارجي، واستثمار ذلك للبقاء في السلطة، سواء بالضغط على خصومه الداخليين عبر التلويح بتسلح اليمين ورفضهم ترك السلطة واحتمالية التوجه نحو حرب داخلية، أم بإظهار شخصية نتنياهو بأنه الوحيد القادر على ضبط سلوك هؤلاء، بمعنى تقديم نفسه للرأي العام الخارجي كضابط إيقاع داخل إسرائيل والشخصية الأكثر تهذيباً في اليمين.
ثالثاً- نتنياهو وبالرغم من كل الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي المقدم من الولايات المتحدة الأميركية، وبالرغم من كل التأثير الذي تمتلكه الأخيرة على إسرائيل، إلا أن إدارة جو بايدن لا تستطيع إسقاط نتنياهو بهذا التوقيت، ولاسيما مع اقترب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية وحاجة أي مرشح لثقل ودعم اللوبي الصهيوني في أميركا من جانب، ومن جانب آخر حكومة نتنياهو الحالية لا تعبر عن هيئة سياسية ناتجة عن البنية السياسية التقليدية أو الكلاسيكية في إسرائيل، بل هي تعبير عن وصول هؤلاء للسلطة بناء على انزياح ديموغرافي واتساع لحالة توسع اليمين على مستوى العالم عموماً وبريطانيا والولايات المتحدة بشكل خاص، بمعنى انتشار التطرف والعنصرية، لذلك في الاتصال الثالث بين بايدن ونتنياهو طالب الأول الثاني بضرورة إبعاد سموتريتش وبن غفير عن السلطة، على حين يتمثل الجانب الأخير في تقاطع المصالح الجيواستراتيجة لواشنطن مع تل أبيب في عدوانها على غزة.
إن من الخيارات التي قد يهدد بها نتنياهو في حال زيادة الضغوط عليه، هو اتخاذ قرار بإشعال المنطقة وجر الجميع لمواجهة محتومة وغير محمودة النتائج عبر اتخاذ قرار الاعتداء على الجمهورية الإسلامية الإيرانية أو حزب الله، وحشر الولايات المتحدة الأميركية في زاوية الاضطرار بانجرارها لهذه المواجهة للدفاع عن مصالحها ومكانتها في المنطقة.
كاتب سوري