في أول تعليق له على الضربات التي نفذتها مقاتلات أميركية على مواقع في سورية والعراق فجر الـ2 من شباط الجاري قال الرئيس الأميركي جو بايدن: إن تلك الضربات كانت «بناء على توجيهاته»، وأضاف: إن الهجوم كان ضد «منشآت في سورية والعراق يستخدمها الحرس الثوري الإيراني والفصائل المتحالفة معه في مهاجمة القوات الأميركية»، ثم قال: إن «الرد الأميركي بدأ اليوم وسيستمر في الأوقات والأماكن التي نحددها»، قبيل أن يختم: «الولايات المتحدة لا تسعى لصراع في الشرق الأوسط أو أي مكان في العالم».
ما يفهم من هذه التصريحات هو أن الضربات الجوية الأميركية التي تأخر موعدها في مؤشر قالت عنه وسائل أميركية عديدة إنه «يثير الكثير من التساؤلات»، كانت خياراً لا بديل عنه بالنسبة لإدارة بايدن التي تعبر الآن نحو مرحلة شديدة الحساسية قياساً للمرحلة الحرجة التي تمر بها الاصطفافات الانتخابية التي ستحدد الخصم الذي سيواجه بايدن شهر تشرين الثاني المقبل مع ترجيحات تشير إلى صعوبة الموقف الانتخابي لهذا الأخير، ولذا فإنه يمكن الجزم بأن تلك الضربات كانت «إعلامية» بمعنى أنها كانت رسائل موجهة للداخل الأميركي بدرجة تفوق نظيرتها الموجهة نحو إيران، الأمر الذي يؤكده قول بايدن الأخير الذي يشير إلى أن لا نية لديه في توسعة دائرة النار في المنطقة، وذاك أمر لطالما عكفت إدارته على التأكيد عليه منذ انطلاق عملية «طوفان الأقصى» فجر السابع من تشرين أول من العام الماضي، والشاهد هو أن إرسال أساطيلها وحاملات طائراتها كان يصب في ذاك الاتجاه بالتأكيد.
من الواضح، تبعاً لطبيعة الهجوم والأهداف، أن واشنطن تبدو مدركة جيداً لحقيقة أن المنطقة برمتها باتت كما برميل بارود على أهبة الانفجار، الأمر الذي يمكن لحظه في اتخاذ منحى الصراع خطاً تصاعدياً، وكذا في تعدد جبهات القتال التي تهدد بإمكان خروجها عن السيطرة تماماً، والمؤكد هو أن ذلك «الإدراك» هو الذي وقف حائلاً ما بين واشنطن وبين القيام برد انتقامي واسع كان سيفضي، فيما لو حصل، إلى ردود أفعال يمكن لها أن تدفع بالمنطقة برمتها نحو تصعيد يصعب التكهن بنتائجه.
من حيث النتيجة لم تحقق الضربات ذاك المرجو منها، إذ لم تكد نيرانها تنطفئ حتى انطلقت صواريخ المقاومة العراقية مستهدفة قاعدة «عين الأسد» بالعراق و«كونيكو» في سورية، وإذا ما كان شيء قد تحقق فهو أنها أفاقت أشباح الحقد والعنف التي تخيم على المنطقة برمتها، وإذا ما كان صحيحاً أن جزءاً كبيراً من هذي الأخيرة كامن في التركيبة المعقدة للمنطقة وهي لم تحظَ بأساليب «الاستطباب» المناسبة بل الذي حصل هو العكس تماماً، لكن الصحيح أيضاً أن جزءاً كبيراً من انتكاس تلك التركيبة كان يحدث بفعل مؤثرات الخارج الذي كان يسعى على الدوام للاستثمار فيها لكن من دون أن يصل الفعل حدود الانفجار، والمؤكد هنا في هذا السياق هو أن الضربات الأميركية ستفعل فعل الزيت إذا ما صب على نار متأججة، ولسوف تؤدي إلى حدوث تشققات في نسيج المنطقة المتهتك تكون مثلى لبروز التطرف من جديد، إلا إذا كان المراد من الفعل هو حدوث ذلك، الأمر الذي يمكن له أن يحسم عبر تتالي الضربات أو وقوفها عند هذا الحد.
تشير ردة فعل العراق ممثلاً برئيس حكومته محمد شياع السوداني إلى تصاعد في وتيرة مطالبة هذا الأخير بتسريع انسحاب قوات «التحالف الدولي»، فالفعل كان حاضراً قبيل العدوان، ولربما كانت التصريحات التي أطلقها، بعيد العدوان، هي الأقسى مما سمعته الولايات المتحدة منذ غزوها للعراق العام 2003، من نوع قوله: إن «التحالف العسكري بقيادة الولايات المتحدة بات يهدد الأمن والاستقرار بالعراق»، وأن هذا الفعل يفرض على حكومته «المطالبة بتسريع المفاوضات الجارية لتنفيذ انسحاب قريب الأجل»، و«القساوة» هنا يمكن لمسها من خلال التوصيفات التي أطلقها مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون، في أعقاب تصريحات السوداني وفيها قال: إن «العراق لم يعد دولة وطنية»، بل وذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أشار على «أكراد الشمال العراقي» بضرورة «تفعيل نتائج استفتاء العام 2017» تمهيداً لإعلان «دولة كردية» الأمر الذي ارتأى بولتون أن إدارة الرئيس بايدن سوف تدعمه.
في مطلق الأحوال يمكن القول إن قوام المنطقة برمتها بات «عجينياً»، الأمر الذي يفسر هذا النوع من التصريحات التي قد تدفع بـ«المقامرين» إلى سلوكيات يمكن لها أن تؤدي من جديد إلى انهيارات تفوق تلك الحاصلة الآن، والغريب في الأمر أن أغلبية دول الإقليم تدير «الأذن الطرشى» لكل ما يجري على الرغم من خطورته المحدقة بالكل وإذا ما كان الفعل لديها أي لدى دول الإقليم ناتجاً عن قراءة مفادها أن «العرس» هو «عرس الجيران» فإن تلك القراءة هي بالتأكيد خاطئة، بل وتمثل درجة عالية من «نأي بالنفس» لا يدرك القيمون عليه أن مصير شعوب المنطقة مرتهن ببعضه بعضاً.
كاتب سوري