بيت الطاعة!
| عصام داري
عندما أعود إلى العزف الصباحي المنفرد على أوتار الكلمة فهذا يعني أنني على قيد الحياة، وقد اكتشفت المرة تلو الأخرى أنني لا أستطيع التخلي عن الحبر والأوراق والابتعاد عن الأبجدية وعطر الكلام، ربما كل ذلك هو الهواء الذي أتنفسه، والأوكسجين الذي يمدني بما أحتاج إليه من قوة وقدرة على الحياة.
لكنني أشعر أحياناً أن عليّ الهروب من الكتابة ربما لأنني وصلت إلى حدود اليأس، أو ربما لامستها مع ابتعاد الأحلام واختباء الأمل خلف واجهة الخراب النفسي والروحي والمجتمعي، والخراب الفعلي لكل ما حولنا من شجر وحجر وبشر، وأرى أن عليّ التوقف والتأمل مادامت الكتابة صارت نوعاً من التكرار ورفع العتب ولا تستطيع أن تحرك ساكناً.
لكن توقي إلى الحلم، وعشقي للحروف والأبجديات، وشغفي بالكلمة والنثر والشعر، واهتمام الكثير من الأصدقاء، وغير الأصدقاء، بما أكتب يعيدني إلى بيت طاعة الكتابة، لأعلن توبتي وأبدأ المحاولة من جديد.
كنت قد قررت ألا أكتب زاويتي في الوطن اليوم، ربما رأيت أنني أحتاج إلى «استراحة المحارب»، فهل أنا محارب كي أرتاح؟ لكنني تراجعت عندما اجتمعت مصادفة بأحد الباحثين المخضرمين في التراث الدمشقي الشامي، وقد فوجئت بكلامه العذب وثنائه على ما أكتب، بل قال لي إنه ينتظر يوم الثلاثاء ليقرأ زاويتي التي تعيده أحياناً إلى ذكريات الشباب والمراهقة.
لهذا الصديق الكبير أقول: إنني أتوق إلى تلك الذكريات الجميلة التي لم نعد نملك سواها في هذه المحطة من أعمارنا، وأغرف من الماضي بعضاً من الصور الجميلة عندما كنا نتخيل أن كل الصباحات متشابهة، إلا تلك التي تختار فيها الصبية الاستيقاظ باكراً، فيكون لضوء الشمس طعم ولون ورائحة تشبه العنبر وعبق الأزاهير ويكون للدفء ملمس! كأنه حرير يلفنا، يسكرنا، يحملنا إلى عوالم من السحر والخيال والتخيل، ويكون للنسيمات مذاق كشهد وسكر ورحيق.. وللعصافير تغريد جديد لا يشبه التغريد، وللفراشات سباحة في الفضاء الرحب لا تشبه الطيران.
لماذا تتغير الطبيعة فقط عندما تشرق الصبايا في صباحات العشق اللانهائي؟ ولماذا يصير الكلام من ذهب وفضة وماس، وتتسابق الأبجدية لإلقاء التحية على واحدة من الصبايا التي اختزلت الحسن والجمال والنساء جميعاً؟.
كانت لنا ذكريات تشبه حلماً أطل لحظة واحدة واختفى، لذا تبدو حياتنا كرحلة في زورق مثقوب نحن الذين نقبع في قعر محيط الزمن، نسير متراً نحو الأمام، لكننا نخشى الغرق، فنتراجع مترين، نفضل السلامة على مغامرة الغوص في الأعماق.
أعود إلى العزف المنفرد الصباحي والمسائي لأترك بصمة، مهما كانت صغيرة، فمن لا يترك بصمته في الحياة فكأنه لم يدخلها، وهي مجرد أحرف أكتبها لأعلن من جديد عودتي إلى بيت طاعة الكلمة والأبجدية، وولائي للجمال والحب والسحر والحرية الضائعة في زمن الفراغ…