اقتصاد

تكحيل حكومي!

| علي هاشم

لا أبلغ من نيّات حصر استيراد الخيوط بالصناعيين كخطة مبتكرة لدعم تنافسية صناعتنا النسيجية، في تجسيد المثل الشائع: (إجا ليكحّلها فأعماها)!
وفق هذا الطراز من القرارات، يخيّل للمرء بأن (التكحيل) رغبة حكومية دفينة، وأن تطلّعها الدائم إلى ممارسته، يدفعها أحياناً إلى خوض جولتين متراكمتين منه على العين ذاتها، مع بذل جهود دؤوبة لتوسيع قائمة الزبائن المحتملين لخبراتها التجميلية المتواضعة، حصر استيراد الخيوط مثال حيّ لذلك، إذ هي لو قاومت، سابقاً، رغبات التجار الجامحة في حماية تدفق المُهرّب والمُستورد من الألبسة نحو أسواقنا كسبب جوهري في تراجع تسويق منسوجاتنا، لما أعمت الصناعيين آنذاك! ولما تسنّى لها خوض جولة جديدة «لحمايتهم» اليوم، عبر إعماء التجار لكن، وقياساً بفرضية نزوعها الشديد المتوقع إلى «التكحيل»، فلو فعلت، فكيف كان لها أن تضمن خطّ إمداد مأمون من الزبائن كالذين سيصطفون أمام صالون قراراتها ساعة إقرار الحصر، بمن فيهم ذلك الطابور الطويل من الورش والمنشآت الصغيرة!
في الشكل، تتطلع رسالة الحصر المقتضبة للتمظهر كأرفع الإيماءات عن مقاصدها في إطلاق حمائية داخلية مبتكرة للصناعة النسيجية الوطنية من الاستغلال السعري في موادها الأولية، إلا أن فحواها يفصح أيضاً عن أن حضور التجار في المعادلة التنافسية يقف دون ذلك تبعاً لعائق سعري يميل لمصلحتهم إزاء المشتريات الصناعية المباشرة، ما تطلب تجاوزه بالحصر، عند هذه النقطة، يبزر التعارض الطريف في الشقّ المعلن من رسالتها ذاتها: حماية الصناعة الوطنية من باب تخفيف الأعباء المالية عليها، عبر زيادة الأعباء المالية عليها!
لاحقاً لقرارها المحتمل، ورغم تفهم عادتها المزمنة في تجاهل مصالح الصناعات الصغيرة، ستساهم الحكومة في خلق واقع تنافسي مريض سيحرم الأغلبية الساحقة من صنّاع النسيج الصغار على وجه الخصوص، من منافسة سعرية في موادهم الأولية بما سيفضي، بالضرورة، إلى منتجات خالية التنافسية، وحينها سيتطلب الأمر مزيداً من الحماية لهم في وجه المستورد والمهرّب، ناهيك عما يذخر به القرار من تضارب مصالح جراء تعريضهم لتضييق تنافسي تقليدي لا بد أنه سينبثق من تحكّم أقرانهم الكبار الذين يتمتعون، وحدهم، بالقدرة الفنّية والمالية على استيراد الخيوط!
بغض النظر عما تؤسس له الحصرية من خلل تقليدي، وعن مخالفتها الجسيمة لقوانين التنافس ومنع الاحتكار، فإن حلول الحكومة المستوحاة من «إقطاعيات» الاقتصاد، واستسهال تنصلها من مسؤولياتها كشرطي مرور لتدفقاته المترابطة، إنما يساعد في فهم منهجية نجاحها في تأمين زبائن دائمين لهواياتها في التكحيل، لكن ليس لخدمة الإنتاج، ووفق كلا الاحتمالين، فعلى كبار الصناعيين ممن آثروا الانتصار للقرار، الحذر جيداً من أمنياتهم لئلا تتحقق، كما عليهم مقاومة غواية طعم الحيتان المتخفّي في قرار الحصر حفاظاً على مصدر فخرهم كمنتجين، إذ إن الإصابة بـ«نزلة التجار» قد لا يتسنى الشفاء منها بسهولة.
أما الحكومة، وتخفيفاً من الضحايا الجانبيين لهواياتها، فسيتطلب الأمر بحثاً مسبقاً عما يكفل عدم المساهمة في تخليق خلل لا تحتاج إليه الأسواق عبر تعريض إنتاج الورش والمنشآت الصغيرة لضغوط جديدة، وهذا بالطبع، ما لم تستمرئ فكرة إخضاع مفاصل قرارها لدورات مكثفة في التكحيل الاحترافي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن