ثقافة وفن

الأساطير وتأثيراتها في الفن التشكيلي … جنوح إلى الخيال الخصب وصعود إلى الأسطرة والتاريخ من أفروديت إلى عصر النهضة

| كرم النظامي

الأسطورة هي القصة المقدسة التي آمن بها أصحاب الحضارات القديمة قبل ظهور الأديان وتعتبر الأكثر تعبيراً عن هواجس الإنسان ومشاعره ونظرته النفسية للعالم من حوله مؤثراً ومتأثراً باعتبارها تقدم إجابات عن ذلك التناقض بين الممكن والمستحيل والخيالي والواقعي لكونها ارتبطت بالوجود الإنساني وتعبر عن معتقده وفكره الديني والفلسفي والروحي ومراحل نضجه من مرحلة وجودية لأخرى، متجسدة بقصص مقدسة تبرر ظواهر الطبيعة ونشوء الكون وخلق الإنسان، ومتنوعة بمواضيعها من أسطورة طقوسية ارتبطت بالعبادات والمعتقدات، وأسطورة التكوين التي تناولت قصة الخلق والوجود، وأساطير تعليلية حاول الإنسان من خلالها أن يفسر ظواهر ما تثير اهتمامه فيشكلها في خياله كحكاية تعبر عن فهمه الخاص لها كما في القصص الشعبية والخرافية وغيرها.
والأسطورة عند علماء النفس هي مجرد تعبير انفعالي عن مشكلات غامضة يفسرها ويحاكيها الإنسان بالتخيلات والأساطير والملاحم والأحلام الخارقة التي تهدئ من روعه وقلقه.

ومن هنا جاءت الأساطير كمادة محفزة للخيال والإبداع لدى الفنان التشكيلي لما تحتويه من ألغاز جميلة ومثيرة ودلالات روحية ووجودية استطاع توظيفها ببراعة في لوحاته أو منحوتاته وإسقاط مضامينها على الواقع ضمن فضاءات تعبيرية ورومانسية وسوريالية لا محدودة، وبذلك كانت الأسطورة في الفنون بشكل عام الأكثر رسوخاً وديمومة في التراث الإبداعي العالمي منذ الثقافات البدائية وما تلاها من حضارات كالفرعونية والبابلية والسومرية والإغريقية والرومانية وغيرها وحتى يومنا هذا حيث لا تزال الحياة بحد ذاتها لغزاً وأسطورة تروى بالكلمة أو اللحن أو اللون مادام القلق الوجودي قائماً.
الأساطير الملهِمة

تجلى تأثير الأسطورة القوي في الفنون التشكيلية من نحت وتصوير أكثر ما تجلى في عصر النهضة (القرن 14- 17) بعد مرحلة مديدة من التعبير البدائي عن هواجس الإنسان عبر رسومات عفوية لم تحمل قيمتها الأكاديمية التي تأسست وتبلورت في مرحلة الكلاسيكية على يد أشهر فناني عصر النهضة كليوناردو دافينشي ومايكل أنجلو وروفائيل وتيتيان وبوتشيلي، إذ حملت إبداعاتهم قيماً فنية وجمالية خالدة شكلت الموضوعات الدينية والأسطورية أهم مؤثرات إبداعهم في التصوير والنحت، حيث غرفوا من حياة السيد المسيح وقصص الإنجيل والسيدة العذراء والقديسين وأضافوا لمسات من شفافية الطبيعة وأساطير الحياة اليومية كما في لوحات ورسوم الفنان روفائيل التي زين بها أسقف الكنائس وبخاصة كنيسة السكستين في الفاتيكان بما احتوته من قصص دينية للسيد المسيح عبر مراحل نبوءته ولغاية صلبه وقيامته إلى جانب العديد من المنحوتات المذهلة التي لا تزال تزدان بها أروقة المتاحف العالمية مع أعمال معاصريه كمايكل أنجلو وبوتشيلي.. كما كان للأساطير الإغريقية والرومانية تأثيرها الكبير أيضاً في إبداع هؤلاء الرواد ومن أهمها أسطورة زيوس رب الأرباب وإله الأرض والسماء الذي يقابله جيوبيتر عند الرومان، وأسطورة أفروديت أو فينوس ربة الحب والجمال وأسطورة كرونوس الذي ابتلع أبناءه الخمسة كي لا يخلفوه في حكم العالم.. وكانت الأكثر إلهاماً ووظفت في الكثير من اللوحات الخالدة أسطورة الربة كاوس وتحكي قصة نشوء الكون والحياة والموت وقد وصفها الشاعر الإغريقي أوفيدوس بأنها «القاع الذي لا نهاية لعمقه والمادة الخام المتفجرة التي لا حياة فيها والبرزخ الفاصل ما بين الأرض والسماء..».
فجميع هذه الأساطير وغيرها كثير كانت مادة خصبة للإبداع، وانحسر تأثيرها المباشر مع بداية العصر الصناعي الحديث وتطور العلوم وخروج العقل من المفاهيم الغيبية وتعدد التيارات الفكرية التي انعكست على الفنون بمجملها.
وهذا لا يعني انعدامها بل بقيت محفزة للإبداع المعاصر كدلالات ورموز تخدم الفكرة التي يعالجها الفنان التشكيلي، فحكايات ألف ليلة وليلة مثلاً التي جنحت بالخيال الخصب وجمعت ما بين الأسطورة والتاريخ، أثارت ريشة الفنان إدوارد ريتشل وأندريه دوجين ويوجين ديلاكروا وغيرهم من الفنانين الغربيين، حيث رسموا قصص هذه الحكايات المشحونة بالمشاهد الخيالية التي تربط العالم المرئي بالعالم الخفي، عدا تأثرهم بملاحم وأساطير الشرق كملحمة جلجامش البابلية وأسطورة عشتار وغيرها، إلى جانب الفنانين المستشرقين الذين نهلوا من ينابيع الشرق وسحره الأسطوري.
الأسطورة في الفن التشكيلي السوري المعاصر

لم يكن المحترف الفني السوري بمنأى عن استلهام الأساطير في التصوير الزيتي والغرافيكي والمائي والإكليريك والنحت بمعالجة تعبيرية ورومانسية وسوريالية، وقد تميز في هذا المضمار على سبيل المثال كل من الفنانين التشكيليين السوريين فائق دحدوح وأسعد عرابي والياس زيات ومحمود جوابرة ويوسف عبد لكي ومنذر كم نقش ويعقوب إبراهيم، حيث زخرت أعمالهم بالرموز الأسطورية المستقاة من حضارة الفرات وبلاد بين الرافدين وأساطيرها وأوغاريت وأفاميا، كالثور والطائر والحصان والأسد، وهي رموز تمثل القوة والتحدي والصراع والحكمة، وبذلك تم إعطاء بعدها المتجدد بالمزاوجة بين التعبيرية والرمزية والرومانسية وسحر وقوة اللحظة الراهنة والفكرة المعالَجة في إيقاع حركي يطرح التساؤلات ويمتع الذائقة البصرية ويعطي العمل شحنة سايكولوجية تشكيلية ذات بعد جمالي مثير بالتكوينات والشخوص والدلالات الرمزية المتعددة التي تحتل فضاءات اللوحة.. إضافة لتأثرهم بالأساطير الغربية التي ورد ذكرها حيث استلهموا مضامينها ولكن بألوانهم الشرقية الدافئة والمثيرة.
إن هذه القراءة السريعة لأعمال هؤلاء الفنانين تأخذ مداها بين الجسد البشري والملائكي والرموز غير البشرية، في مزاوجة بين التصوير الروحي والذاكرة والثقافة الذاتية فتأخذ الأسطورة مداها بشكلها السوريالي الغائم في الحلم ورمزية المفاهيم.
وللتعمق أكثر في تأثير الأسطورة في الإبداع لابد من التوقف مع أهم فنانين تشكيليين سوريين وهما:
– الفنان الراحل فاتح المدرس في لوحته الشهيرة (التدمريون) التي صوّر فيها رجالاً أسطوريين وآلهة الخصب بإحساس فطري رفيع وخطوط عفوية تكسوها ألوان تحاكي مناخات لون الأرض الذي تزخر به مدينة تدمر السورية بحمرتها وسمرتها وصفاء سمائها.
– والفنان الراحل نذير نبعة في لوحاته الشهيرة «الحوت والقمر وكائنات مردوخ وسيزيف» حيث عكس تأثره بالتاريخ والأساطير السومرية والتدمرية ووظفه فيما بعد في إبداع لوحات دمشق المزدهية بطهرها ورونقها في بديع اللون والنور وتزاحم الورود والأزهار كحلم مرتجى وقدمها للمتلقي وكأنها الآلهة عشتار بتوليفاتها الرمزية، وكان قبلها خلال فترة تدريسه مادة الرسم في دير الزور، قد نهل من تراث وأساطير هذه المدينة البدوية وأبدع جداريات مابين النهرين ورسم على الفخار والخزف الملاحم الفراتية.
إذاً كان للأساطير تأثيرها الكبير في الفن التشكيلي عبر مراحل العصور المختلفة، والفن ترعرع في أحضان الأساطير وكانت ملهمته ومادته الخصبة للإبداع الأبدي، وكما قال الفنان الكبير الراحل فاتح المدرس:
ليس هناك من فن بلا واقع ولا واقع بلا خيال أو تقاليد وأساطير عميقة الجذور!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن