قضايا وآراء

من الخاشقجي إلى إدلب جولة صراع جديدة

| ميشيل كلاغاصي

اختفى جمال، وبدأت الجولة، هكذا هو حال الشاشات ووكالات الإعلام الكبرى المعروفة بنفاقها أكثر من صدقها، وأيضاً بناتها في الإعلام العربي، قنواتٌ لم تحترم يوماً عقول الناس، تهافتت لتنوب عن قنوات الأفلام والاّكشن والرعب أيضاً.
تسمّر المواطنون أمام الشاشات، فالأخبار العاجلة لم تكن لتتوقف لحظة، مشهد غريب أن يحضر سكان الأرض فيلماً واحداً وبآن واحد! فـ«التايمز» و«الواشنطن بوست» و«دايلي ميل» وغيرها، استطاعوا تجميد البشر أمام الشاشات، وخدروا العقول كما خدروا جمال، بجرعةٍ زائدة، وحرفوا الأنظار عن الحقيقة.
من جمال خاشقجي، ولماذا اختير ليكون «بطل» القصة الوحيد؟ ولماذا تحرك العالم والساسة لأجل اختفائه؟ ولم يتحرك لأجل ملايين البشر الذين قتلوا في فلسطين والعراق وسورية واليمن؟! هل تعرض جمال إلى ما تعرض له لأنه صحفي وكاتب مشهور؟!
من المؤكد أن اختفاء صحفي عادي لم يكن ليؤدي إلى تحريك العالم بهذا الشكل الرهيب! ويتساءل البعض: هل حقا هو صحفي «مرموق»؟ كما قالوا عنه، فالرجل بدأ حياته كأي سعودي وهابي متحمس في زمن حرب السوفييت، لم يتأخر بالالتحاق بمعسكرات التطرف المسلح في أفغانستان، ولم يتوقف عن إرسال الصور والمعلومات لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية التي بدورها فتحت أمامه أبواب صحفها ووكالات أنبائها، إضافة لصفقات شراء السلاح التي قام بها لصالح المملكة وإيصاله لما كان يسمى بـ«الجهاديين»، فقد عمل لسنوات تحت إمرة بندر بن سلطان الوكيل العلني لتنظيم القاعدة.
يبدو أن صديقنا «المرموق» هو رجل استخبارات سعودي أميركي بامتياز، عمل مع الأمير تركي والوليد بن طلال وكان واحدا من فريق محمد بن نايف، وخاض الصراع معه ضد محمد بن سلمان، وغادر خشية أن يُدق عنقه، وفضّل العمل من خارج المملكة لإصلاح وضعه، فكان «داعما» للإصلاحات التي يقوم بها ولي العهد ومنتقداُ لأسلوبه فقط، فهل تقاعد ابن الستين عاماً وتحول فقط إلى رجل ثري وكاتب صحفي «مرموق» تستقطبه أجهزة الاستخبارات ووكالات الإعلام «المرموقة»، ليكون «سوبرستار» الصحافة، لا تتفاجؤوا فقد نصادف يوماً صحفياً آخر كمحمد علوش أو البويضاني أو الجولاني، يعمل في الصحف العالمية كصحفي «مرموق»!
أياً كان الدور الذي لعبه خاشقجي، علينا ملاحظة ارتباطه بدولتين تشكلان رأس حربة المشروعين الإخواني والوهابي اللذين يشتبكان على الأرض في سورية، في مشهدٍ يضم أيضاً الجيش العربي السوري وحلفاءه من جهة، ومن جهةٍ أخرى تظهر أميركا وتحالفها الستيني والخليجي وملحقاته العربية المدعومة بحليفهم الجديد كيان العدو الإسرائيلي، الأمر الذي يؤكد أننا لم نغادر المشهد الدولي والصراع الملتهب فيه منذ سبع سنوات، وعليه فإن اختفاءه يرتبط مباشرة بالإرهاب الذي حوصر وتم تجميعه في مدينة إدلب، ويكاد ينتهي بحسب اتفاقية مناطق خفض التوتر، وآلية الاتفاق الروسي التركي، ويبدو أننا عدنا إلى قلب الصراع الذي اختفى فيه ولأجله خاشقجي.
المشهد في سورية يسير بعكس مصالح أعدائها كافةً، ويتجه نحو الحل السياسي وإنهاء ملف إدلب، آخر التجمعات الإرهابية، مشهدٌ قاتمٌ بالنسبة لواشنطن ولإسرائيل ولأطراف عديدة، فانتهاء الحرب يُعقّد أمورهم وحساباتهم، ومهلة بدء تطبيق الاتفاق الروسي التركي انتهت وعلى الطرف التركي الانتهاء من عزل المجموعات الإرهابية عن تلك «المعتدلة»، على طريق الحل السياسي الذي يفترض عودة إدلب إلى كنف الدولة السورية وقبولها بعودة من أراد المصالحة وإبعاد الإرهابيين الأجانب إلى تركيا أو إلى بلدانهم التي ترفض عودتهم بشدة.
لقد انفرد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعملية الفرز وتبخرت أحلام السعودية في الحفاظ على حدٍ أدنى من أوراقها ومجموعاتها الإرهابية في إدلب، فبدأت المواجهات وحرب التصفية والاغتيالات، وبدأت تركيا بفضل سيطرتها وقواتها النظامية وعملائها على الأرض، بتجييش الأهالي ضد الدور السعودي الممثل بهيئة التفاوض، وعملت على إخراج الأهالي في مظاهرات ضدها بما يصب في صالح ما يسمى «الائتلاف المعارض» المدعوم والمسيطر عليه من تركيا بالمطلق.
على المقلب السعودي الداخلي، أرهقت أموال الحماية التي يطلبها ترامب من ملك السعودية وولي عهده، خصوصاً أنه بدأ يتصرف ويتحدث عنهم بطريقة مهينة للغاية، وكان على جمال أن يدفع كغيره من السعوديين اللذين جمعوا ثرواتهم من العمل تحت راية المملكة وسيفها لسنوات، ومع هزيمة الدور السعودي ميدانيا وضعضعته سياسياً كان لابد من تأخير تقدم دور تركيا والضغط عليها أو توريطها وابتزازها، فكانت خطة وفضيحة اختفاء مواطن سعودي على الأراضي التركية، مقابل دورٍ سعودي جديد في إدلب، لكن الصحفي خان سيده وأبلغ الأتراك، كي لا يدفع، فشجعوه على عدم العودة إلى السعودية ووعدوا بحمايته واستغلوا العملية لصالحهم، وأعلنوا أنه اختطف ودخل ولم يخرج.
على المقلب الإسرائيلي، صمت الكيان ولم يتدخل علناً، لكنه يبقى صاحب المصلحة الكبرى في دعم حليفه السعودي، الذي بدا وحيدا وضعيفا في مواجهة الماكينات الإعلامية والتهديدات وضياع الجهود والملايين التي سُخرت لأجل تحسين سمعة المملكة، فولي العهد هو الصديق الحميم لصهر الرئيس الأميركي ومستشاره، والذي بذل الجهود المستحيلة ليبني تلك العلاقات المتينة مع المملكة والتي تصب مباشرة في صنع «المجد» اليهودي عبر نقل السفارة وكل ما يتعلق بصفقة القرن ومشروع نيوم وغزة الكبرى وعشرات الصفقات مع السيسي والفلسطينيين، ومن مصلحة الإسرائيليين منع أي اهتزازٍ لعلاقة السعودية بالولايات المتحدة، الأمر الذي سيحد من نفوذها في المنطقة وينعكس على قدرتها في تأسيس خط الدفاع الأول عن «دولة إسرائيل»، وخط الهجوم الأول على إيران.
على المقلب التركي، حاول أردوغان أن يبدو مرتاحاً، ويسير بخطا ثابتة و«يفي» بوعوده التي قدمها للروس بإفراغ المنطقة العازلة من الإرهابيين، ويتجه نحو إلزام موسكو بتفسيره للمنطقة العازلة، وبقاء قواته لحين الانتخابات السورية كما قال، وأنه يبحث عن حل مع الشعب السوري وليس مع الدولة السورية، إذ يأمل أردوغان بجلب مرتزقته وكل ما افتعله وأقامه من كيانات بشرية أو أبنية خدمية على أنها مؤسسات الدولة السورية «النظيرة» ليشرعنها عبر العملية السلمية، وإقحام عملائه ومرتزقته من الإخوان المسلمين في الحل السياسي.
لقد ورط أردوغان نفسه بمشاكل مع ترامب بما انعكس على الليرة والاقتصاد التركي، اضطر للسير في المسلك السلمي الإجباري أمام الروس والإيرانيين، وتأكد أنه بعيداً عن الرئيس ترامب لن يستطيع إنقاذ نفسه وحلمه في سورية، فشارك في قصة الخاشقجي ولعب لعبته، وصفع السعودية، وقدم لترامب هدية الإفراج عن القس اندرو قبيل الانتخابات النصفية في الكونغرس، مقابل عودة العلاقات مع واشنطن بما يسمح له بالعربدة والمشاكسة ثانية مع الروس.
على المقلب الأميركي، ظهرت إدارة ترامب واحدة من أكثر اللاعبين هدوءا، وسارت باللعبة إلى منتصف الطريق وتوقفت عند حدود جني الأرباح، ولن تسمح لها أن تتقدم أكثر لحماية إسرائيل ومصالح واشنطن، إذ يقول ترامب: «لا يؤيد وقف مبيعات الأسلحة للسعودية»، ويتساءل: «هل يتوجب علينا وقف صفقة بـ110 مليارات دولار مع بلد لديه أربع أو خمس بدائل»؟
على المقلب الروسي، لاحظ الجميع أن موسكو لم تبد أي اهتمام حيال اختفاء خاشقجي وكانت آخر المتحدثين عنه، فالدولة الروسية تسيطر سياسياً وعسكرياً على دور ونفوذ كل من السعودية وتركيا في إدلب، وما يعنيها في الموضوع تجنب الاصطدام الدولي المباشر الثنائي أو المتعدد، وفي هذا السياق تأتي زيارة جون بولتون القادمة إلى موسكو، والدعوة التي وجهتها الخارجية الروسية لوفد هيئة التفاوض لزيارة موسكو، في محاولةٍ لتقليل آثار العربدة التي قام بها السعوديون والأتراك والأميركيون في قصة خاشقجي.
على المقلب السوري، تبدو دمشق الأكثر ثقة بخطواتها وبانتصارها، فالرئيس بشار الأسد يتكئ على ثمار البطولة والتضحيات والصمود الأسطوري للدولة والجيش والشعب، بعدما اجتهد بهدوء وحنكة واستحوذ على كافة حبال اللعبة، فالأكراد لا يجرؤون على الذهاب بعيداً في المخطط الانفصالي، والأتراك رأوا كيف لسورية أن تستميل السعودية وفريقها العربي، وكيف لها أن تستميل أو أن تستعدي التركي نفسه، وبات من المؤكد أن سورية اليوم قد عادت بقوة لتكون مركز السلام أو مركز القرار لحروب استقلالها محلياً أو إقليمياً أو دولياً، ويمكننا التمييز بوضوح بين الغباء السعودي الذي يعتقد أنه قادر على وضع دستور الجمهورية العربية السورية المنتصرة، وجنون العظمة والأحلام الأردوغانية بمنح الإخوان المسلمين شرعية وجودهم في الحياة السياسية في سورية، مع فارق أن أردوغان وبعد سبع سنوات يدير هزيمته ولا يدير انتصاره، وكان عليه أن يتابع وثائقي الميادين «الرجل الذي لم يوقع» ليدرك أن هذا الشبل من ذاك الأسد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن