ثقافة وفن

النقل يحكم حياتنا الفكرية فلا أمل في إنتاج! … العقل العربي المتنور وقع أسير الموروث الذي قد لا يكون مقدساً … حوار الأديان والتقريب بين المذاهب لعبتان من المرجعيات

| إسماعيل مروة

تدور أحاديث كثيرة عن المثقف والمفكر، وعدد من الدارسين والأكاديميين في زماننا يلصقون بأنفسهم لقب المفكر، أو يلصقها بهم الآخرون، وهم لا رأي لهم غير النقل الذي تعلموه في الداخل، أو الخارج، وربما عملوا على ترجمة بعض الكتب والدراسات فهل تؤهلهم هذه الصفات لاكتساب صفة المثقف أو المفكر؟
عرّفوا المثقف تعريفات كثيرة، وبعضها يصب في مصلحة من أوجد التعريف، لكن أعمّ تعريف وأصدق تعريف هو ذاك الذي يوضح بأن المثقف هو ذاك الإنسان الذي يجري عملية انقلابية إيجابية من خلال الآراء والأفكار التي بدأ منه، وقد ينقلب عليها، لكنه شخص ملك رؤية استطاع من خلالها أن يضع رؤية جديدة لما هو سائد، قد تصل حد الرفض، فهل لدينا أي نوع من المثقفين وفق هذه الرؤية؟

الثقافة ومن ثم الفكر ليسا جملة هنا وأخرى هناك، وليسا عملية تلفيقية من منظور ديني أو أيديولوجي لإرضاء المجتمع والتقاليد والأفكار السائدة، وإن جلّ الذين يرون أنفسهم من المفكرين هم أشخاص ارتبطوا بانتماءات دينية أو مذهبية أو طائفية أو وضعية، وهذا الانتماء بحد ذاته يفقدهم صفة الحرية المطلقة في الرؤية واستخلاصها ووضعها..! وخلال القرون بقي العربي أسير الثوابت، لذلك لم نجد مثقفاً، وبالتالي لم نجد مفكراً يخرج من الثوابت أو عليها..!
المشكلة في فهمنا للنص الديني، وليست المشكلة في النص نفسه، فالإنسان هو من وضع الحدود والرواسم لنفسه ومجتمعه من خلال فهمه للنص الديني، ومن خلال انسجام مصالحه مع هذا النص أو ذاك! فهو الذي يقصي نصاً وينتصر لآخر، لا لشيء، إلا لأنه يتساوق مع مصالحه وفهمه ورؤاه، وخاصة إن أخذنا بعين الاعتبار أن الذين تولوا أمر النص الديني قديماً وحديثاً، أخذوا مرتبة مقدسة عند أتباعهم، وهم أدرى بمفاتيح النص كما يريدون، وليس كما هو!

القراءة الأولى والنقل
تصدى للنص المقدس وتبيانه عدد كبير من الفقهاء والمتبحرين في شؤون البلاغة واللغة، ونعلم جميعاً أن اللغة خضعت للتعقيد في مرحلة لاحقة، وهؤلاء على جلالة قدرهم قد لا يملكون القدرة، وهم لا يملكونها للإحاطة بالنص القرآني المقدس، فكانت قراءاتهم لغوية وبلاغية، ودراسة فيما نقل إليهم عن الصحابة من قراءة وتفسير لهذه الآية أو تلك، وجاءت أسباب النزول لتضع إطاراً للفهم الزمني الآني، ومن ثم جاء الفقهاء ليمدوا هذا الفهم ليناسب الحياة الحالية، وتمت تنحية أسباب النزول في الدراسات والكتب، وقلّما تكون مرافقة أحياناً لطبعات محددة من القرآن الكريم.. وإذا أردنا أن ننظر في التفاسير الجليلة حقاً، والتي جاءتنا عن أولئك العلماء، فإننا سنجد أن ما وقف عنده المفسر الأول هو ما يردده المفسرون مع ميل للأدب أو اللغة أو البلاغة حسب اهتمام هذا المفسر أو ذاك، وقد التزم المفسرون في نقل ما جاء عن المفسر الأول وأصحابه، دون الخروج قيد أنملة عن القراءة، ما عدا بعض المفسرين الذين حملوا مذاهب فكرية وآراء مثل الزمخشري في «الكشاف» ولكنه وجد من يتتبعه ليعيده إلى القراءة الأولى، بل ينفي عنه صفة التفسير والقراءة، لأنه يمثل في نظره الفكر المعتزلي في التفسير، ولكنه لم يجد من يقوم بقراءته وانتقاده وتدعيمه للوصول إلى قراءات عديدة ومهمة.. واستمر الأمر إلى العصر الحديث، فما من قراءة اجتهادية، حتى من قام بالتفسير الحديث للقرآن صنفان:
– الأول تصدى للقرآن وهو لا يجيد قراءته وقواعده.
– الثاني متابع وملخص للتفاسير القديمة.
كل هذا العلم ألا يستحق منا أن نبحث عن قراءات جديدة لمفهوم (الضالين) في سورية الفاتحة؟! وبقينا نردد ما قال القرطبي وابن كثير وصولاً إلى الزحيلي والصابوني وآخرين!!
حتى أهم التفاسير في عصرنا لا تعدو أن تكون نقلاً عن السابقين وكتب التفسير، وتحولت قراءة هؤلاء العلماء إلى قراءة مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
وفي العصر الحديث لم نجد سوى تفسير واحد يمكن أن يحظى بالقراءة والاهتمام والرعاية والانتقاد، لكنه تفسير أيديولوجي قاسٍ، كان من المفترض أن تتم دراسته بشكل دقيق لتبدأ من جديد مرحلة غربلة القراءات ما دامت عن بشر!
وعندما فسّر الشيخ متولي الشعراوي القرآن الكريم حظي بقبول من الناس، لأنه قدم قراءة بسيطة تتعامل مع الناس، وبجملة تمثل همومهم وتفكيرهم، ولكنه كان مترهلاً وبعيداً عن الناس لضخامته، وقد اعتنى بتراثه الدكتور السيد الجميلي، فلم نعد نعرف ما للشيخ وما للدكتور، إضافة إلى أنه لم يتم تقديم تفسير موجز وبسيط يبتعد عن الحكايات والاستطرادات التي كان يفرضها التفسير الجماهيري.
ما من تفسير للقرآن الكريم يحاول أن يقدم قراءة تتجاوز النقل!! وإن ناقشته يقل: قال القرطبي، قال ابن كثير، قال مجاهد!! وماذا يعني؟! وما الذي يمنع أن تقول أنت وسواك في فهم النص المقدس، أم إن ما فرضه شيوخ النقل على حياتنا يصر على إبقائنا تابعين في الفهم غير قادرين على تقديم رؤانا؟!

العلم والإعجاز
غصت كتب التراث والمكتبة العربية بكتب الإعجاز ودلالات الإعجاز من معمر بن المثنى وإلى الجرجاني، وقد أخلصت هذه الكتب المهمة للإعجاز القرآني من نواح لغوية وبلاغية ونحوية وإخبارية، وعلى الرغم من التمحّل إلا أن هذه الكتب قدمت دراسات وإن عجزت عن الوصول إلى الإعجاز القرآني في حقيقته، وقد تتبعت في مرحلة الدراسة والبحث هذه الكتب، فوجدت أنها وقعت في فخ النقل الثاني عن الأول وهكذا، بل إن كتباً احتوت كتباً فرأيت أنه حتى في الإعجاز لم يستطع أحدهم أن يقدم قراءته الخاصة، ومنذ عصر التفجر العلمي والمعرفي على المستوى العالمي، صرنا نقرأ عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، فهذا يتحدث عن الإعجاز الرقمي (عليها تسعة عشر) وثاني يتحدث عن الإعجاز الطبي، وثالث عن النباتي، وهكذا، ولم تقف الأمور عند الإعجاز القرآني، بل امتدت للطب النبوي وإعجازاته! ومن ثم امتد الأمر ليصل إلى بعض الذين يقصون ويلصقون ويسرقون ويظهرون على وسائل الإعلام للحديث عن الإعجاز، وهذا أمر خطر يتعلق بالنقل والعقل، وبطبيعة الفكر العربي:
1- مفهوم الإعجاز هو مفهوم معزز ومسلم به، ولا يحتاج إلى تدليل من هذا الشخص أو ذاك.
2- تحولت كتب الإعجاز إلى وسيلة ارتزاق وتجارة لأناس لم يقرؤوا القرآن، وكل ما يفعلونه هو نقل ما قيل.
3- يتحدث أحدهم في وسائل الإعلام عن الإعجاز، وهو ينقل ولا يجيد قراءة آية قرآنية بمدودها.
4- يتحدث السادة المشايخ- وهم ما شاء الله يعرفون بكل شيء- في الإعجاز العلمي، وكثيرون أخذوا الثانوية الشرعية بالعافية، وجاؤوا بدكتوراه من الباكستان أو ما شابهها من دول، ويصممون على صدم أعيننا بألقابهم ولا من يحاسب.
المهم أن هؤلاء الأجلاء يتحدثون عن الإعجاز النباتي والطبي وعن الرياح لواقح، وعن الأجنّة وغير ذلك، وهم لا علاقة لهم بأي جانب علمي! ولم يقتدوا بالغرب، فالطبيب عندهم وبعد أبحاث طويلة ومستفيضة يصل إلى قضية إعجازية، وهو قادر على برهنتها وإثباتها، بينما نحن نأخذها عنه ونؤلف فيها، ونترزق من ورائها، ولو سئلنا عنها لا نعرف شيئاً!
وعالم النبات يمكن أن يتحدث عن صور من الإعجاز، عن صور لا أكثر، ولكن من يتحدث لا يعرف عملية التركيب الضوئي.
5- قرأت كتباً في الإعجاز العلمي، حازت الإعجاب لدى الناس، وليست إلا نقلاً غبياً للأمور، وكاتبها في مجلدات لم يغادر مسجده، ويحدثك عن العلم والنظريات والطب والفضاء! لا بأس أن ترويها حكايات للناس وتردها إلى أصحابها، أما أن تؤلف فيها وأنك مكتشفها فهذا أمر خطر.
جميع هذه الكتب يجب أن يتم إتلافها، وقد أسهمت بشكل كبير جداً في إتلاف عقل الشاب العربي والإنسان، وجعلته يبحث في كل علم وأمر في القرآن الكريم لا غير، فهو حسب النقل، وحسب كتب الإعجاز نال علوم الأولين والآخرين.
والدليل على ذلك أننا عندما نخضع للمقاطعة نأخذ من النص القرآني وإعجازه العلمي قطع الطائرات والمستشفيات والعلم كله، ولا نحتاج مطلقاً لهذا العالم العلمي.
ثمة فرق جوهري بين العلم وصور الإعجاز في النص القرآني أو أي نص مقدس آخر، العلم سعي ووصول، والبحث في صور الإعجاز عجز وكسل.
وأطرح دوماً سؤالاً مهماً، وقد طرحته على بعض الذين يؤلفون في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ولم أستطع أن أحصل على جوابهم، لأن الإجابة تدخل في صلب العقيدة لمن يدعي أنه أكثر إيماناً ومعرفة:
– هل القرآن الكريم كتاب علمي يجب أن يحتوي كل العلوم؟
– إذا جاءت ظاهرة علمية، ولم تستنبطوا في القرآن ما يقابلها فهل يفقد القرآن مكانته الإعجازبة؟
ولكن لا يلتفت أحدهم إلى العقل، وإلى أن القرآن كتاب تعبد وليس كتاباً طبياً وعلمياً، وتستمر السبحة، وستبقى كتب الإعجاز منتشرة إلى أن يجنح المجتمع إلى العقل.
وعندما يجنح إلى العقل سيلتفت المتخصصون لدراسة الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفضاء والإلكترونيات كما يجب، لنصبح جزءاً فاعلاً من العلم والحركة العلمية، وقد يخلص أحدهم إلى نتيجة مهمة فنقرؤها منه ومن أبحاثه لا من شيخ أو واعظ غير قادر على استثمار التقانة!!

النقل وانتقال الضغائن!
استطاع العرب أن يصنعوا نوعاً من الكهنوت المقدس الذي يعجز الإنسان عن تخيله، فقد أوجدوا تنازعاً كبيراً بين المذهبية واللامذهبية، وهي باختصار أن تكون متابعاً وتابعاً ومقلداً لأحد المذاهب الإسلامية الكبيرة، فهذا ينتمي إلى هذا المذهب وذاك إلى مذهب آخر، والمذهب ليس أكثر من قراءة لأحد الأئمة وشرح لما يراه، ولا خلافات حقيقية بين مذهب وآخر، ولا من خلاف جوهري أو غير جوهري، ومع ذلك رأينا هذه المذاهب تتصارع، وفي المصنفات ما يخجل المرء من ذكره عن رأي الأصناف بالشافعية، أو رأي الحنابلة بالمالكية، وعلى ذلك يمكن القياس في نوعية المصنفين والقضايا التي وقفوا عندها، إلى درجة نجد فيها حكماً يصل حدّ التكفير لأتباع هذا المذهب أو ذاك، بل إن هؤلاء يملكون الجرأة للانتقاص من الأئمة أنفسهم! ألم نسمع بمن يأخذ على الشافعي علاقته بجعفر الصادق؟ علماً بأن الشافعي يعطي درساً في معاصرة الفقه وإمكانية تطويره! مع أن الفقهاء كانوا على علاقة ود واحترام وأستذة في كثير من الأحيان، لكننا نريد أن نجعلهم خصوماً بصورة إجبارية، وكل من صنف من أي مذهب كان نقل عن سابقه من دون تحرير ومن دون نظر، وردد ما قاله السابق، فامتلأت المكتبة الفقهية بما يستطيع أن يشق عصا أي جماعة في الكون، وأنا أعفي نفسي من ذكر النصوص، ومن شاء فليعد إليها، فهي متوافرة في مكتباتنا ومعاهدنا.
وهذا ما نقل الضغائن بين أبناء الانتماء الواحد إلى اليوم، وكثيراً ما رأيت مصلياً يصلي مفرداً لا جماعة في المسجد، لأن الإمام شافعي لا يريد الاقتداء به!!
وكأنه لا يكفي هذا الفكر النقلي التخلفي ما فيه، فتم العمل على إنشاء فكرة اللامذهبية، السلفية، التي تمثلت في الدعوة الوهابية التي تدعو إلى نبذ كل المذاهب، واتباع النص، وترافق ذلك كله مع نبذ ورفض وتكفير، وقد اكتظت المكتبات بالكتيبات التي نشرتها الدعوة الوهابية لتعزيز صورتها القائمة على رفض الآخر، وتدّعي الحركة وقد جاءت في آخر الزمان أن الرسول صلى الله عليه وسلم خصها بحديث (الفرقة الناجية).

بداية الصراع مع الأزهر
في الربع الأول من القرن العشرين أخذت الحركة الوهابية ودعوة محمد بن عبد الوهاب بالبروز، في الوقت الذي بدأت فيه حركة الإخوان المسلمين بالظهور في مصر، وحدث صراع خفي، ثم ظهر للعلن بين الحركتين اللتين زعمتا العودة إلى المنابع الدينية، وأخذوا الصراع شكلاً من الهيمنة على المذهب السني في العالم الإسلامي، واستندت حركة الإخوان إلى الأزهر ومشيخته، واستندت الوهابية إلى الأرض المقدسة، ومع التسليم بأن أي دعوة دينية لا تتسم بالاعتدال ولا بالإصلاح، إلا أن صورة الأزهر حاولت أن تظهر كذلك، لكن تغلغل الإخوان المسلمين في المؤسسة الدينية الأزهرية غيّر المسار، والطفرة المالية في السعودية أسهمت في استمالة كثير من الناس البسطاء، بل استمالت كبار العلماء الذين صاروا يلهجون بالدعوة الوهابية، وما نزال إلى اليوم ندفع ثمن هذا الصراع، الذي تحوّل إلى صراع سلطوي للهيمنة على العالم الإسلامي لا غير من دون أي غاية فكرية أو دينية أو نهضوية، وغاية التسلط والهيمنة هي التي أجرت بحاراً من الدم قائمة على الرفض والتكفير، وأضيف إلى الخلافات الداخلية بين المذاهب الإسلامية، التي أشرت إليها، والتي تقوم على الرفض والتكفير، أضيف: تيار يكفّر الجميع من دون استثناء، في إطار سعيه ليكون مذهباً واحداً ومعمماً على كل المذاهب الإسلامية السنية.

وللتقريب بين المذاهب قصة
مع الثورة الإسلامية الإيرانية، واعتماد المرجعية الدينية في إيران ظهرت فكرة جديدة، تزعمها علماء العالم الإسلامي ومن المذاهب كافة تحمل اسم (التقريب بين المذاهب) وهذا الاسم بحد ذاته يعطي دلالة على وجود خلافات شديدة تؤدي إلى التباعد، وما يجري هو محاولات للتقريب بين المذاهب! لو شاء الله لجعلها مذهباً واحداً، لكن المذاهب الفكرية غنىً، وما من خلافات عقيدية، وكل الخلافات تتعلق بالسياسة والإمامة والحياة الدنيا!
فما من حاجة لهذا التقريب الصوري الذي لا يقدم فوائد، وخاصة أن من يقوم به جملة من العلماء الكبار، في كل مذهب، وهؤلاء دعاة اكتملوا، وكل واحد منهم يتعامل بدهاء ومصلحة، وتنتهي كل الاجتماعات من دون أي فائدة تذكر، مثلها مثل حوار الأديان، الحقيقة لا وجود لحوار الأديان ولا للتقريب بين المذاهب، والموجود هو فهم الأديان وفهم المذاهب، والاعتراف بالآخر وكينونته وحياته والذي يقوم به دون محاولات تصويب تكون قسرية ومرفوضة من الجانب الآخر، ومن جانبها تكون محاولة للتدجين والسيطرة والهيمنة.
وقد حضرت مؤتمرات عدة في حوار الأديان، وفي التقريب بين المذاهب، وهذا الحضور هو الذي خولني أن أصل إلى هذه النتيجة، بأن هذه المؤتمرات واللقاءات مضيعة للوقت والورق والمال، وليست أكثر من كرنفالات وبروتوكولات تنتهي بصرف المزيد من المال، وزرع الكثير من الضغائن والحقد، وحبذا لو يتم استبدال هذه اللقاءات بالفهم والتفهم لا الحوار، وخاصة أن أبحاث هذه الحوارات والمؤتمرات موجودة للعلن، ولو قرأها أحدهم فلن يجد خلافاً بين هذا الشخص وذاك، ولا بين المذهب وذاك، فعلام كان الاجتماع؟! وأين موطن الخلاف؟

غياب المفكرين سبب
إن السبب الأساسي الذي أوصلنا إلى هنا هو غياب طبقة المفكرين والفلاسفة، فالأديان تخرّج متخصصين في اللاهوت، والمذاهب إن أفلحت فستخرّج الفقهاء، لكنها لا تخرّج فيلسوفاً، ولن تخرّج مفكراً يعتدّ به، ولو خرج مفكر يتبع إلى مذهب، وينتمي إلى جماعة، فإن هذه الجماعة هي أول من سيحاربه لأنه يهدد مصالحها!
المفكر يخدم النص المقدس، لكنه ينطلق من احترام العقل، لذلك يسعى إلى سيطرة العقل على مجريات الحياة التي نعيشها، وهذا ما يجعل طبقة علماء الدين، ورجال الدين طبقة عادية في المجتمع، وبذلك تخسر مصالحها!
المفكر هو الوحيد الذي لا يسمح لأحدهم أن يتحدث باسم الرب أو بتفويض منه، فالرب للجميع، ولا وساطة معه، وفي كل الديانات، المؤمنون أحباب الله، والعقل يسمح للحوار المباشر بين العبد والرب كما فعل ابن عربي، وهذا الحوار يتناقض مع مصالح رجال الدين ومؤسساتهم التي تبنى على حساب الإنسان البسيط وتسليمه.
في كل الحضارات توجد هذه الهيمنة، وكما عبر أحد أصدقائي في حوار جانبي بأن الحضارات لا تقوم إلا على الدم، وضرب لذلك أمثلة، ولكن ما أريد أن أصل إليه هو أن الدم كان مرحلة وبنيت الحضارة، بينما نحن ندفع دماً لتخلفنا، ودماً لتحضر الآخر.
في كل الحضارات يوجد مفكرون يتحدثون للإنسان المواطن، ويتبع مناهجهم كثيرون، وهناك من يتبع رجال الدين، ولا تعارض بين التوجهين لأنه خيار للإنسان.. فلنبحث عن المفكر وآليات تفكيره.

التأثير في العلمانية
قد لا يتنبه كثيرون إلى أن أخطر ما في التوجهات الدينية اللاهوتية أنها أفسدت حياة الناس، فحتى الأحزاب العلمانية والقومية وما شابه، وحتى النظريات الوضعية التي اخترعها الإنسان اصطدمت مع التوجهات الدينية، لكنها ما لبثت أن صنعت معها اتفاقاً تلفيقياً ينفي أي تعارض، ولكن الاتفاق الأكثر خطورة كان متمثلاً في تبني التوجهات العلمانية لسياسة التوجهات الدينية اللاهوتية، فصارت الأفكار مقدسة، وصار الأشخاص مقدسين، فتحولت إلى أفكار توقف عجلة التقدم والتطور في المجتمع، فهذا ما يريده الحزب الفلاني، وهذا ما يريده القائد الفلاني، وبدل أن يتحرر الإنسان من ممثلي الإله على الأرض صار تحت سلطة لا تقل، وهي على تماس معه، وقادرة على فعل ما تشاء عقاباً له!!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن