ثقافة وفن

تكايا الصوفية بين العبادة والتدريس والحياة … أماكن خاصة بقيت تأخذ دورها حتى منتصف القرن العشرين

| منير كيال

عرفت مدينة دمشق زمن العثمانيين مشيدات عرفت باسم التكايا، وقد اتخذت الصوفية هذه التكايا للعيش بها، وقد امتازت هذه التكايا باتساع مساحتها، بحيث تضم التكية مسجداً للصلاة وغرفاً للتدريس ومطابخ ومخازن ومستودعات مؤن، فضلاً عن بحيرات المياه والسقايات، فكانت التكية في غاية من الجمال والروعة. وتذكر المصادر أن أول من أوجدها بمدينة دمشق هو السلطان سليم الأول ثم السلطان سليمان القانوني، ثم سار على نهجهما من أتى بعدهما من الولاة والأثرياء.
وقد زودت التكية بالفرش والقناديل والكتب وألحقوا بها التُــرب، وحبسوا لها الأوقاف الكثيرة، وبالتالي عينوا لها النظار للإنفاق عليها، وعلى المتولين لشؤونها، فضلاً عن الإنفاق على المدرسين بها والمؤذنين والخطباء والأئمة وقرّاء القرآن الكريم.
وكانت التكية تقدم وجبات الطعام للفقراء والمحتاجين، الأمر الذي جعلها مأوى للفقراء وأبناء السبيل، وأحياناً المتكاسلين عن العمل، الذين أطلق عليهم لقب: «تنابلة السلطان» حتى بلغ عدد هؤلاء بالتكية الواحدة نحو ثلاثمئة إنسان.
ولعل من الجدير بالذكر أن من هذه التكايا ما بقي يقوم بمهامه إلى أواسط القرن العشرين، منها ما شيده السلاطين، ومنها ما كان تشييده بمجهود خاص، وعلى ذلك فإن التكية السليمانية تعتبر أنموذجاً للتكايا التي شيدها السلاطين. وهي تشكل مجموعة عمرانية كبرى محاطة بسور يخترقه ثلاثة أبواب وهي بالشرق والغرب والشمال، وهي تشغل مساحة كبرى من الأراضي التي على يمين نهر بردى. ومن الملاحظ أنه يتوسط صحن هذه التكية (باحتها) بحرة ماء مستطيلة، كما نجد في كل من الجهتين الشرقية والغربية من الصحن، رواقاً يماثل كل منهما الآخر بعدد أقواسه المحمولة على أعمدة أسطوانية ذات تيجان، وفوق هذه الأقواس قباب متساوية بالعدد والاتساع والارتفاع لكل من الرواقين، وخلف كل من الرواقين عدد متساو من الغرف، قبابها أعلى من قباب الرواقين، كما نجد بالجهتين الشمالية والجنوبية مباني يوحد بينها الطراز المعماري المتمثل بالواجهات والأروقة المطلة على الصحن أو الباحة.
فضلاً عن هذا يلاحظ أن الحدائق تشغل الفراغ الواقع بين السور والمباني، فضلاً عن أقسام الصحن، أما مسجد هذه التكية فهو يحتل الجناح الجنوبي من كامل المجموعة العمرانية، وهو مؤلف من رواق عريض (إيوان) وقاعة مربعة لها قبة عالية ذات رقبة بنوافذ من الزجاج المعشق، وتشكل هذه القاعة حرم المسجد، وإلى الشرق والغرب من قبة الحرم تنتصب مئذنتان رشيقتان على غرار مئذنة سنان باشا، عند مدخل سوق باب سريجة من جهة الشرق.
أما واجهات هذه التكية، فمبنية بمداميك من الحجر الأبيض والأسود بما يعرف بأسلوب «الأبلق» ويدخل إلى حرم التكية عبر باب ينفتح بجدار الرواق الآنف الذكر، وعلى جانبي الباب محرابان مزينان بالمقرنصات.
وقد تحولت التكية، فيما عدا الصحن والحرم، إلى متحف حربي بالعقد السادس من القرن العشرين تعرض فيه الأسلحة التي استخدمها السوريون عبر التاريخ، وقد بنيت إلى الشرق من التكية السليمانية تكية صغرى بشكل مستقل، وقد كان نظارها ومدرسوها يعينون من اسطنبول، وقد تحولت فيما بعد إلى سوق للمهن اليدوية التقليدية.
أما التكية المولوية فهي أنموذج للتكايا التي شيدت بمجهود خاص، وقد حدثني عنها الشيخ فائق المولوي عندما التقيت به سنة 1965 للميلاد وهو شيخ الطريقة المولوية.
فقال لي: إن بناء تكية للسادة المولوية في دمشق، يعود إلى زمن الشيخ قرطل دادا المولوي الذي استقر بدمشق، وأخذ يتعبد مع الأتباع المريدين في خربة صغيرة عند موقع تكية المولوية الحالي، إلى الشمال الشرقي من محطة الحجاز، وصدف أن مر بالمكان مصطفى لالا باشا، وهو بطريقه إلى الحرب، فجمح به حصانه، فلما استجلى له سبب جموح الحصان، عرف أن بهذه الخربة زاهداً يتعبد مع مريديه، فمثل بين يدي الشيخ، وقبّل يديه وطلب منه الدعاء بالنصر، فأعطاه الشيخ قميصه، فلما عاد مصطفى لالا باشا منتصراً، طلب من الشيخ أن يطلب منه ما يريد، فطلب الشيخ من لالا باشا أن يجري للمريدين المقيمين معه جراية، وأن يقيم لهم مكاناً يتعبدون فيه. وهكذا شيدت نواة التكية المولوية بدمشق، فلما كان زمن شيخ الطريقة عطاء الله المولوي، قام بشراء الأطيان والأراضي المجاورة للتكية، وجعلها وقفاً للدراويش. وفي زمن مشيخة الشيخ سعيد بن عطاء الله المولوي، قام بإصلاح البناء، وشيد بعض الأبنية المجاورة للدراويش، ثم عمد ابنه محمد شمس الدين إلى هدم الجامع القديم وتشييد جامع آخر حديث مكانه لا يزال ماثلاً إلى اليوم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن