قضايا وآراء

بين الميادين وكل «الميادين»: متى ستقال الحقائق كما هي؟!

فرنسا- فراس عزيز ديب :

ماذا لو أجرنا أقلامنا؟ ماذا لو رهنا ضمائرنا ولبسنا أقنعة الاستثقاف وبدأنا نخاطب الشارع العربي بما يريده منا عتاة «البتروديمقراطية». تعالوا معاً لنهب هبةً واحدةً ننتصر فيها لقضايا العرب وننتصر للشعوب العربية على طريقتهم ليرضوا عنا، فنكتب عن فصاحة «سلمان» وحنكة «عفريت العلبة» كما وصف وزير الإعلام «عمران الزعبي» وزير خارجية العائلة. تعالوا كما غيرنا نتراقص على جثث أطفال اليمن، ونحتسِ من الدماء السورية الطاهرة نخباً، فتتقارع «كؤوس الطلا» بحضرة الراعي الأميركي فتمسي «إسرائيل» قدراً، ومعاداتها هو أمرٌ فرضه «النظام السوري» على شعبه كما روج أحد المعارضين. لنبدأ منذ اليوم بتجميع حروفنا كخيوطٍ نحيك منها قصصاً عما يريده «طويلي العمر» من الترويج للحرب المذهبية في المنطقة، فتصبح هذه الخيوط حبل نجاةٍ لهم.
القصة ليست خلافاً مع الميادين، القصة هي ما يجري على كل «الميادين»، هي أشبه بفرازات الزيت التي تعمل بالقوة النابذة، قد يبدو «التفل القانئ» أثقل وزناً، لكنه لا يستطيع التعايش مع الدوران السريع فيخرج، ليبقى ما هو صالح للاستخدام.
عندما قلنا: إن «آل سعود» يخوضون حربهم الأهم، فلأنهم يدركون أن لا سبيل لبقائهم إذا ما تحولت الدول في المنطقة للحد الأدنى من الديمقراطية. هل تتخيلوا مثلاً أن «آل سعود» يتحملون قانون إعلام في سورية يكفل قول كل الحقائق، حتى ولو افترضنا تحقق ما يتمنونه وسقط «النظام»، وهم لم يتحملوا مجرد فيلمٍ يتحدث عن إجرام «الملك المؤسس». يريدون لنا أن نكون إما «قطعاناً مثقفةً» ترتدي ربطات العنق لتسجد لـ«إله المال» فتسبح بحمدهم «بكرةً وأصيلا»، أو قطعاناً جاهلةً تحتذي «شواريخ الوهابية» وتلبس فتاويها كـ«دشاديش»، كان آخرها وليس «أخيرها» فتوى «تحريم التعرض للأمراء ونشر فضائحهم». هذه الطغمة لا يمكنها أن تتعايش مع ما يجري في المنطقة، فتريد أن تسحب المنطقة بكاملها لتخلفها كي لا تبدو غريبة، والدليل أنها كانت ولا تزال تعرقل كل الحلول، فما الجديد؟!
في الإطار العام باتت التناقضات التي تحكم تصريحات المعنيين دولياً بإيجاد حلولٍ لأزمات المنطقة ومن ضمنها سورية مثيرةً للشفقة. تعلق ألمانيا مثلاً عن ضرورة «إشراك الأسد في الحل»، ثم يخرج وزير خارجيتها ليرفض أي «دورٍ للأسد في الحل»، فهل هذا التناقض هو نتاج صفقة حل أزمة اللاجئين التي تم الاتفاق عليها بين ميركل وأردوغان، أم هو مرتبطٌ بصفقة دبابات «ليوبارد» قادمة مع إحدى مشيخات النفط.
يزور وزير الخارجية العماني سورية، فيرتفع منسوب التفاؤل، بل إن هناك معلومات تحدثت عن رسالةٍ أميركيةٍ غير مباشرةٍ للقيادة السورية، ثم يزور وزير خارجية «آل سعود» عمان ليصرح بأن هناك توافقاً مع عمان حول اليمن وسورية، دون أن تتضح ما حقيقة هذه التوافق، فهل هو بالحدود التي يطلبها «آل سعود» ونأى العماني عنها، إذن هل هو توافق أم تهديدات مبطنة؟
تفاءل السوريون بأن هناك تقدماً ملحوظاً للجيش العربي السوري على عدة جبهاتٍ بعد التدخل الروسي، فوضعت الدول كل إمكانياتها لقلب الأمور والاستماتة لتحقيق تقدمٍ ولو بسيطاً لاستثماره إعلامياً لجهة التأكيد أن التدخل الروسي لن يؤتي ثماره، وهو ربما ما تحقق لهم فيما يجري في ريف حماة والسيطرة على «مورك». حتى ما يحكى عن اجتماع فيينا في الأسبوع القادم يبدو ذراً للرماد في العيون، فكيف سيخرج هذا الاجتماع والحدود لا تزال مفتوحةً على مصراعيها لتدفق الإرهابيين، بل ما هو أشد من تدفق الإرهابيين.
في الأسبوع الماضي تحدثنا عن صفقةٍ بين الأتراك والأميركيين حول الشمال السوري، هي أقل من مناطق عازلة وأكثر من عملية تطهيرٍ عرقي، تأخذ منحيين: الأول كردي بدعمٍ أميركي مع ضمان عدم التوسع، والثاني تركماني يستطيع من خلاله الأتراك ومن خلال ما يتم جلبهم من «الأيغور» أن يتحكموا بالكثير من المسارات، تحديداً إن منح هؤلاء بطاقات هوية سورية لم يعد بالأمر الصعب. هو استنساخٌ كاملٌ لما جرى في لواء اسكندرون، والأهم أن الولايات المتحدة ومن خلفها تركيا سيتبنيان تلك القوات كقوات معارضةٍ معتدلةٍ سترث الأرض بعد أن يتم تحريرها من «داعش»، فهل سيحمي الطرح الروسي بتحديد هوية المعارضة المعتدلة هذه المناطق من إمكانية فرض مناطق حكمٍ ذاتي فيها؟
أخرج الروس في الأسبوع الماضي الورقة الأهم، طلبوا تحديد الفصائل المعتدلة من غير المعتدلة، تحديداً، إن تفريخ هذه الفصائل بات أكبر من لجمه، فـ«جند الأقصى» التي استولت على «مورك» انشقت عن «داعش» وشكلت «جيش الفتح»، ثم استقلت عنه، أما «داعش» و«النصرة» فقاتلوا في حلب جنباً إلى جنبٍ، وبذات الوقت هناك من ربط التفجير الذي استهدف قيادات ما يسمى «هيئة علماء القلمون» بهذا الصراع. هو أمر لا يبدو منطقياً، لكنه يبدو محاولةً لتكرار ما حدث في إدلب عندما استهدف تفجيرٌ قيادات حركة «أحرار الشام» الإرهابية، وعادة ما يكون هذا النوع من التصفية مرتبطاً بقرارٍ أكبر على مستوى الدول الداعمة، وله أحد هدفين: الأول هو استنساخ تنظيم أو شخصياتٍ جديدةٍ لتعويمها كمعارضةٍ معتدلةٍ، أما الثاني، وهو الأهم فهو القضاء على من يمتلكون معلوماتٍ تزعج رعاتهم.
عندما خطف المطرانان في حلب، وعندما خطف الحجاج الإيرانيون، قلنا كيف لدولٍ تتعاطى مع الخاطفين وتتواصل معهم وبالنهاية هناك من يميز بين هذه الدول وبين الخاطفين؟ بنفس الطريقة فإن الجميع يعرف أن «جبهة النصرة» هي من خطفت عناصر الجيش والأمن اللبناني وقامت بذبح البعض منهم، مع ذلك كان اللبنانيون يهللون لدخول مشيخة قطر على خط التسوية وإطلاق سراحهم. هنا لب القضية، إننا بتنا نتعامل مع داعمي الإرهاب على أنهم جزءٌ من الحلول ونتناسى أن الأحداث في المنطقة متشابكةً لدرجة أن هذا التفجير قد لا يمكننا فصل سياقه العام حتى عن حادث الطائرة الروسية، فهل سنشهد في سيناء مستقبلاً تفجيرات تصفية كهذه أم هو محض خيال؟
سقطت الطائرة الروسية في سيناء، لا يبدو أن الأمر حتى الآن يوحي بأن الحادث عرضي، لكن فيما يبدو أن الجميع يحاول الهروب نحو الأمام، فالقيادة المصرية بعلاقاتها الحالية مع مشيخات قطر و«آل سعود» تستحق بجدارةٍ لقب «الهارب من الحقيقة». منذ اللحظات الأولى سعوا لنفي فكرة العمل الإرهابي وهم محقون بذلك، فالتركي يتطلع لوراثة القطاع السياحي المصري والضغط أكثر في ليبيا، لكن ماذا فعلوا للجمه ولجم المشيخات المتعاونة معه؟ ربما سيفرح المصريون كثيراً لو ثبت بالدليل القاطع أن «داعش» أسقط الطائرة بصاروخٍ، لأنه أهون الشرين، رغم أنه احتمالٌ شبه مستحيل تقنياً قياساً بالارتفاع الذي كانت تحلق فوقه الطائرة. تبقى فرضية الإسقاط بصاروخٍ أهون من فرضية سقوطها بعبوةٍ ناسفةٍ زرعت فيها لأنه علينا ألا نسأل هنا من الذي زرع القنبلة، بل علينا أن نسأل من الذي يمتلك القدرات على إنجاز هذا الخرق الأمني في المطار المصري؟ هنا تكمن المشكلة التي يسعى الجميع للهروب منها، لأن الحادث لا يمكن بأي شكلٍ من الأشكال أن يكون فردياً أو مرتبطاً بجماعة ما، وبالكثير من الواقعية والموضوعية لا يمكننا اتهام الولايات المتحدة بهكذا عملٍ لأنها أول من أعلن أن أحد أقمارها الصناعية التقط وميض انفجار، فهل هذا العمل هو نوعٌ من العقاب للروس، أم هي رسالةٌ أبعد تتقاطع فيها مصالح الأتراك في مصر وتصفية حساباتهم مع ما يسمونهم الانقلابيين، أم إن الحقيقية الأهم باتت تطفو على السطح: الأذرع الإرهابية (دولاً ومشيخات وتنظيمات) هي التي باتت تنحكم بالشرق الأوسط بكامله؟! فما الحل؟
الحل واضحٌ… إلا إن كان هناك من يظن أن الفكر الصحراوي سيتوقف عند حدودٍ معينة، ما زلنا الآن في مرحلة فرز «التفل القانئ»، واستخراج ما هو صالحٌ للاستخدام في هذه المنطقة، تحديداً إن عجلة الدوران باتت أسرع مما هو أساس بقائهم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن