ثقافة وفن

الطرافة والغرابة في سيرة حياة حسني الزعيم

شمس الدين العجلاني :

نقرأ في صفحات التاريخ، وتروي المطبوعات من كتب وصحف ومجلات مواقف لا بد من التوقف عندها في سيرة حياة حسني الزعيم الرئيس السوري الأسبق وقائد أشهر انقلاب عسكري في سورية.
اشتهر حسني الزعيم في فترة حكمه لسورية عام 1949م والذي استمر قرابة مئة وسبعة وثلاثين يوماً بالعديد من التصرفات الغريبة والمضحكة في آن واحد… أقرباؤه، أصدقاؤه، الصحف والمجلات، جميعاً تحدثوا ورووا الطريف والغريب والمضحك في سيرة حياة الرئيس حسني الزعيم.

نذير فنصة يروي:
يروي لنا نذير فنصه وهو صحفي سوري، كان يرأس تحرير جريدة «ألف باء» وهو عديل الرئيس حسني الزعيم ومدير مكتبه، أن الزعيم دبّ الرعب في قلوب رجال الدين بدمشق فيقول: «تسلمت بمكتبي في رئاسة الأركان العامة رسالة مغفلة مكتوباً عليها (مستعجل وسري جداً) أرسلها المقدم إبراهيم الحسيني رئيس المكتب الثاني والشرطة العسكرية، فتحت الرسالة وقرأتها كانت مثيرة جداً، خلاصتها أن أكثر من مئة من تجار وزعماء الأحياء ذكرت الرسالة أسماء أكثرهم وكلهم من أصحابي وأعرفهم ويعرفهم حسني الزعيم طبعاً، عقدوا صباح أمس اجتماعاً في جامع دنكز بدمشق وناقشوا موضوع القانون المدني، وقانون إلغاء الأوقاف الذرية، وقوانين أخرى حيث كان الزعيم حسني الزعيم أعلن قبل يومين أنه كلف الوزير أسعد كوراني بتحضيرها.. وهاجم بعض الخطباء الزعيم الملحد وقالوا إن القانون المدني لا يتفق مع الإسلام وإنه يلغي قانون الملة الإسلامي إلى غير ذلك، وتبارى الخطباء بالهجوم على الانقلاب العلماني، وبعدها وقف أحد رجال الدين الأفاضل وقال: يا جماعة دعونا لا نندفع بعواطفنا وأنا أعرف حسني الزعيم وأعرف أخاه الشيخ صلاح الزعيم الرجل التقي وحسني الزعيم مسلم وقد يكون بعض رجال حاشيته قد ضللوه وخدعوه، وأنا أقترح أن نؤلف وفداً ونذهب لمقابلته وإقناعه بتغيير رأيه، فوافق الجميع على هذا الاقتراح وانتخبوا 25 منهم على أن يتصلوا غداً أي اليوم بسكرتير الزعيم نذير فنصة ليأخذوا موعداً لمقابلة الزعيم، دخلتُ مكتب الزعيم وقرأت له هذه الرسالة فضحك كثيراً وقال متى اتصلوا بك حدد لهم موعداً بعد الغد الساعة 11 صباحاً. وفعلاً عند الظهر اتصل بي الشيخ حسن حبنكة الميداني وهو صديقي ومن علماء الشام وخطيب لامع وجريء جداً فأجبته باحترام كامل أن الزعيم غداً مشغول جداً وبعد الغد الساعة 11 صباحاً تفضلوا لمقابلته.. دخلت لمكتب الزعيم وأبلغته المخابرة.. قال اطلب لي المقدم إبراهيم الحسيني.. طلبت المقدم إبراهيم وأعطيت السماعة للزعيم.. قال الزعيم بشكل جدي جداً، اسمع يا إبراهيم: بعد الغد الساعة 11 وعشر دقائق تماماً تلفن لي وتكلم ما تشاء واسمع مني ولا تجاوبني سوى بنعم، بعد الظهر حضر إلى مكتبي المقدم إبراهيم الحسيني وقال لم أفهم شيئاً من كلام الزعيم؟ قلت: لقد عرضت عليه تقريرك حول زعماء الأحياء فضحك وقال لي اطلب المقدم إبراهيم، هذا كل ما أعرفه. قال: إنه يسمع منك يا نذير، اذهب إليه مساءً في منزله وأبلغه بشكل لبق جداً ألا يتحرش بهؤلاء الزعماء وأن يستقبلهم بشكل لائق، لا نحب أن ندخل في مشاكل معهم، إنهم أقوياء جداً ولهم شعبية ونحن بحاجة إليهم، لا نريد مشاكل يا أخ نذير. قلت: أنا من رأيك ولاسيما أن أكثر الوفد المؤلف من أصحابي.. وفي المساء حسب عادتي تناولت مع الزعيم طعام العشاء وعرضت وجهة نظر المقدم إبراهيم الحسيني وتأييدي له، فضحك الزعيم كثيراً وقال سترى غداً.. قلت له إياك أن تهينهم أو تسيء استقبالهم، والله والله أنا أترك هذا المكتب وأذهب إلى بيتي.. في الموعد المحدد وقبل 7 دقائق حضر ما يقارب من العشرين زعيماً فرحبت بهم بحرارة وبقينا وقوفاً لأن مكتبي كان غرفة صغيرة بجانب مكتب حسني الزعيم، في الساعة 11 تماماً فتحت الباب، فوجدت الزعيم واضعاً (المونوكل) أي زجاجة واحدة على عينه على الطريقة الجرمانية وبيده عصى صغيرة يحملها عادةً كبار الضباط وبيده اليسرى الكفوف البيضاء، فضحكت سراً على هذا المنظر الكاريكاتوري.. دخل الزعماء فبدأ الزعيم يرحب بهم بحرارة ويذكر أسماءهم وداعب بعضهم بعبارات لطيفة جداً.. في الساعة 11 وعشر دقائق دق التلفون فأخذت السماعة وكان المقدم إبراهيم الحسيني على الخط فقلت: المقدم إبراهيم الحسيني يريد أن يكلمك، فقال الزعيم: قل له أن ينتظر على الخط، وبعد أن صافح الجميع ورحب بهم أخذ السماعة وقال: نعم مقدم إبراهيم، ماذا، ماذا، أنا لا أسمح بمثل هذه الأمور، أخرجه من الزنزانة وأعدمه فوراً في ساحة سجن المزة، كان يحمل مسدساً أم موساً، لا فرق موس أم مسدس، أطلق النار عليه فوراً، أنا لا أسمح، لا أوافق أن يعترضني أحد، وضعت دمي على كفي أريد أن أصلح، أريد أن أطبق القوانين، لا أقبل بأي أمر من هذا النوع افهم.. أنا فهمت التمثيلية فنظرت إلى وجوه المشايخ فوجدتها قد اصفرت وكل واحد ينظر إلى رفيقه، وبعد هذه المخابرة أرجع سماعة التليفون بعصبية وقال: قبضوا على شاب معه مسدس، أمرت بإعدامه فوراً، أنا سأربي هذا الشعب الذي علمه شكري القوتلي الاستخفاف بالدولة والقوانين، ما كان عهد القوتلي عهد هيبة، كان عهد فوضى، ثم أضاف بصوت جهوري: تفضلوا ماذا تأمرون؟ لم يتكلم أحد كأن على رؤوسهم الطير، كل واحد ينظر إلى الآخر، وبعد دقيقة جمود قال أحدهم جئنا لتهنئتك والله يوفقك والسلام عليكم واندفع نحو الباب من دون أن يصافحه وتبعه البقية وكأن حريقاً وقع في الغرفة والشاطر منهم يخرج قبل الآخر.. قال لي الشيخ (حبنكة الميداني) وهو يودعني: أعانك اللـه يا نذير، إنه مجنون، كيف يعدم شخصاً من دون محاكمة فقد يكون هذا المسدس الذي وجد معه للدفاع عن النفس، هذه مهزلة وخرجوا، بعضهم صافحني مودعاً وحزيناً والبعض هرول بالخروج.. دخلت على الزعيم فوجدته مستلقياً على كرسيه ورجلاه على الطاولة، يضحك ويضحك ويمسح عينيه بمنديله من كثرة الضحك.. وبعد أيام نشر القانون المدني ونشرت قوانين أخرى منها إلغاء الأوقاف الذرية، ولم يصدر أي صوت أو اعتراض من رجال الأحياء ولا من غيرهم، لأن قصة المسدس الوهمي أصبحت حديث أهل الشام».

حنا مالك يروي:
أما حنا مالك، الذي كان النائب العام التمييزي والأمين العام لرئاسة مجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية سابقاً، يروي في مذكراته: «بعد أن قام الزعيم حسني الزعيم بانقلابه العسكري وأطاح بشرعية الحكم الدستوري القائم، أصبح رئيساً للدولة ومشيراً، وفي هذه الفترة قام بزيارته صديقه الحميم الدكتور توكلنا (يوسف توكلنا) في منزله الملاصق لمقر محكمة التمييز في محلة نوري باشا بالصالحية. وبعد الاستئذان من الحرس وموافقة المشير، صعد الصديق ليهنئ صديقه. وبعد انتهاء الزيارة، جاء الدكتور لزيارتي في مكتبي ودخل علي والابتسامة العريضة تملأ وجهه، وهو أخ وصديق لي. وبعد التحية قال: (كنت بزيارة فخامة المشير رئيس الدولة وهو صديقي الحميم، وسأقص عليك ما جرى لتشاركني ابتسامتي: بعد أن أذن لي وصعدت وقرعت جرس الباب، وجدت المشير رئيس الدولة أمامي وجهاً لوجه، وبالقميص والكيلوت. وبعد التهنئة والقبلات، مسكني من يدي وأخذ يدور بي حول طاولة الطعام الموجودة في وسط الغرفة ويقول لي: (ارقص! أخوك صار رئيس دولة… على هيك دولة) وبعدئذ جلسنا وشربنا القهوة ثم ودعته وأتيت لأزورك وأقص عليك ما حدث لتشاركني فرحتي وضحكي».
ويروي أيضاً حنا مالك: «كانت هنالك شخصية مقربة جداً لحسني بك الزعيم ويعتمد عليها ويثق بها. ولما نجح في الانقلاب الذي أطاح بالعهد الدستوري، أسند إلى رفيقه هذا عملاً رئيساً مهماً في إحدى مؤسسات الدولة الحساسة خارج دمشق. وأخذ هذا الصديق الذي أصبح يشغل وظيفة مرموقة في الدولة يسبّح ويمجّد بسيده حسني الزعيم… (ويتابع حنا مالك بالقول: إن هذا الشخص قال في أحد المجالس: «لو لم أكن مسلماً، وديني يأمرني أن محمداً هو خاتمة الأنبياء، لقلت إن فخامة المشير هو خاتمة الأنبياء، بعثه اللـه منقذاً ومصلحاً لهذه الأمة»). وبعد هذا الحديث بساعات قتل حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي إثر الانقلاب العسكري الذي قام به سامي الحناوي، وأرسل على إثره تعميماً برقياً على جميع المحافظات بمقتل حسني الزعيم ورئيس وزرائه، وما إن استلم صديق حسني الزعيم البرقية حتى قال حسبما روى مالك حنا: «على جهنم وبئس المصير. لقد كان رجلاً سكيراً أهوج أحمق ويريد أن يقوم بإصلاحات خيالية. لا رده اللـه»!!؟؟
هذه بعض الطرائف من فترة حكم استمرت قرابة مئة وسبعة وثلاثين يوماً هي الأطرف في سيرة رجل، يقال عنه إنه كان غير متزن، حلم بالسلطة وحقق حلمه وانتهى مأساوياً، سطر أول انقلاب عسكري، الذي أدى إلى مراحل من عدم الاستقرار السياسي في تاريخ سورية، وفتح باباً على الوطن العربي لم يغلق بعد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن