ثقافة وفن

الذاكرة البصرية والثقافية ترفض النسيان…بوتين والهدف التربوي من حكاية مقاومة الأهل

مها محفوض محمد

بالنسبة لكل روسي الحرب العالمية الثانية قبل كل شيء هي الحرب الوطنية الكبرى استطاع الجيش الأحمر في نهايتها أن يدحر النازية ويحرر العالم من خطرها.
هذه الحرب التي بدأت في 22 حزيران 1941 واستمرت لأربع سنوات طويلة حتى 9 أيار 1945 تعتبر الأكثر دماراً وفتكاً في تاريخ البشرية حيث بلغ عدد ضحاياها ثمانين مليون شخص من جميع الأطراف المتحاربة.
الذكرى السبعون لها هذا العام جاءت مختلفة عن الأعوام السابقة وكان الاحتفاء بها في روسيا مميزاً أوله في العرض العسكري حيث أراد الرئيس بوتين أن يعيد إليه الكثير من نماذج العرض السوفييتي السابق كما ركز في خطابه غير كل مرة على دور الجيش والشعب السوفييتي في التضحية ضد النازية الدور الذي يتجاهله الغرب، ولم يقتصر الاحتفاء على الاستعراض العسكري هذا العام بل كان واسعاً ومنوعاً على الصعيد الثقافي والفني.
فقد أطلقت مؤسسة RBTH الثقافية الإخبارية الروسية مشروع «حرب لم يعرف حجمها» يشتمل على الكثير من المواضيع والنشاطات التي تخص المناسبة أرادت من خلاله البحث في نتائج ومقاربات هذه الحرب على عالم اليوم فكان هناك العديد من الإصدارات والمذكرات والأفلام الوثائقية وحفلات الموسيقا.
من المواضيع المهمة التي تم طرحها موضوع الذاكرة البصرية الذي تم فيه عرض الكثير من الصور في تلك الحرب تحت عنوان: الصورة ضد النسيان حيث يتم التركيز على مصوري الحرب الذين بلغ عددهم حينذاك 258 مصوراً استطاع العالم بفضلهم الاطلاع على مشاهد الحرب وأخبارها، اثنان منهم فقط ما زالا على قيد الحياة أحدهما بوريس سوكولوف 95 عاماً يعيش في روسيا تم تكريمه وتحدث إلى الصحافة كيف كان يدرس في المعهد العالي للتصوير السينمائي لكنه فور اندلاع الحرب التحق بالخطوط الأولى واستمر حتى نهاية الحرب وكان هو من غطى توقيع معاهدة استسلام ألمانيا وجلسة المحكمة الشهيرة في نورمبرغ وقد حضر للتكريم بالأوسمة والميداليات التي يحملها مع بعض المحاربين القدامى الذين تم استقبالهم والاحتفاء بهم في مسرح بولشوي.
المصور الآخر الذي أعيد اسمه إلى الأذهان ايفغيني كالدي وهو من التقط صورة الجنود السوفييت وهم يرفعون العلم الأحمر فوق مبنى البرلمان الأوروبي (الرايشتاج) عام 1945 وبعد سبعين عاماً ورحيل المصور جيء بالصحفي البريطاني نيك هولدز الذي عرفه عن قرب ليتحدث عنه قائلاً:
لقد كان أحد أكبر المصورين في الخطوط الأولى عرف برباطة الجأش ويوم التقط تلك الصورة الشهيرة التي عنونت النصر عاد خلال أيام إلى موسكو والمعركة لا تزال حامية ليخرج الصورة من لفائف مسوداته ويومها طلب من عمه الذي كان يعمل خياطاً أن يطبع الصورة على غطاء طاولة أحمر لأنها ستكون رمزاً كبيراً للنصر السوفييتي وفعلاً وبعد مدة وجيزة أصبحت الصورة الحاسمة في هزيمة النازية وقد نشرت قبل أيام من الاستسلام النهائي لألمانيا بعدها رقي ايفغيني إلى رتبة ملازم أول لمساهمته الكبيرة في رفع معنويات الجنود السوفييت، يقول الصحفي هولدز:
لكن ايفغيني قضى حياته بعد التقاعد فقيراً في ضواحي موسكو وكان يهدي الصور لزائريه دون قبول المال لقاء أتعابه واليوم تباع النسخ الأصلية من أعماله بآلاف الدولارات وقد تم عرض الكاميرا التي اشتراها عام 1937 واستخدمها في التقاط صورة الرايشتاج الشهيرة للبيع أواخر عام2014 في هونغ كونغ وبيعت بمبلغ 220000 دولار. ولهذه المناسبة أيضاً ثم إصدار فيلم رسوم متحرك عنوانه «سقوط الرايخ» للرسامين البلجيكي ايف بلاتو والفرنسي اوليفييه وينبرغ هدف الفيلم تصحيح دور الجيش الأحمر في تحرير أوروبا: وبعد إنجاز البحث الوثائقي وتخطيط الرسوم عن سقوط الرايخ يقول ايف بلاتو: مع اقتراب الذكرى السبعين لهذا النصر أردنا لفت الانتباه إلى عدم الاعتماد على الأفلام التي تعرض على شاشاتنا الصغيرة بقصصها الملفقة التي تروي بطولات قوات الحلفاء التي هبطت في النورماندي لتحرير فرنسا فهنا لا نتحدث إلا عن الأمريكيين. ويتابع بلاتو حديثه تحت عنوان: «إرث سوفييتي منسي»: ما أريده اليوم الإلحاح على إعادة الصورة الصحيحة عن تحرير أوروبا لأنه وبحسب استطلاعات رأي أجريت في آذار الماضي على آلاف البريطانيين والفرنسيين والألمان فإن أغلبية الناس هنا تعتقد أن الأمريكيين والبريطانيين هم من حرر أوروبا ودور الاتحاد السوفييتي هو دور ضعيف ففي فرنسا61% ومثلهم 52% من الألمان من الذين سئلوا يعتبرون أن الدور الأساسي في عملية التحرير هو للأمريكيين لذلك لا يجوز السكوت على أهمية دور القوات السوفيتية، لقد شكلت معركة ستالينغراد منعطفاً حقيقياً في تلك الحرب ولو لم يقاوم السوفييت لكانت نتيجة الصراع مختلفة تماماً. نعم الجيش الروسي هو من بقر آلة الحرب الألمانية وهذا ما أقر به وينستون تشرشل لذلك فقد ركزنا في مقدمة الفيلم على دور الجيش السوفييتي على الجبهة الشرقية ومعركة الدبابات.
أيضاً يعلق أوليفييه وينبرغ الذي نفذ عملية تحبير الخرائط بالقول: لقد كانت قراءتنا للتاريخ حول الجبهة الشرقية قراءة خاطفة لم تتح لنا القراءة الحقيقية لتاريخ هذه المعركة لذلك نحن نركز في الفيلم على قوة وصلابة السوفييت وعلى المآثر التقنية لهم كقذائف ستالين (راجمات الصواريخ) وهدفنا تربوي لتعليم الأجيال الجديدة بحقائق التاريخ عن طريق الرسوم المتحركة فمقاربة الموضوع بأسلوب اللعب أسهل من القراءة ويضيف أوليفييه: إنجاز هذه الرسوم واجب علينا لحفظ الذاكرة ولأن ما يحدث يجعلنا نلح على معرفة من أين أتينا وكيف قامت أوروبا الحالية فإذا استطعنا الإسهام في إدراك ذلك نكون قد ربحنا الرهان.

الحرب لم تمنع الحب
وتحت هذا العنوان صدرت مقالات كثيرة في هذه المناسبة عن قصص حب وزيجات تمت خلال الحرب حيث سجل مكتب الأحوال الشخصية عام 1941 في موسكو 44000 حالة زواج و33000 حالة في العام 1944.
كما تم إخراج فيلم وثائقي أهدي إلى روح المقاوم الأسطوري نيكولاي فاسينين وهو جندي سوفييتي عاش إلى جانب شجاعته وبأسه قصة حب مدهشة فالجندي نيكولاي (1919-2014) كان بين الأسرى الذين أرسلتهم القوات النازية إلى معسكرات الاعتقال في فرنسا وبعد عامين تمكن من الهرب والالتحاق بالمقاومة الفرنسية ضد النازية وأثناء تنفيذ إحدى العمليات جرح فاسينين جروحاً بليغة ونقل إلى نقطة إسعاف ليصحو بين يدي فتاة جميلة تعتني به وهي ابنة الكابتن جورج نونو المعروف وقتذاك فوقع بحبها وأحبته إلى حين عودته إلى روسيا وبعد تحرير فرنسا طلب يدها من والدها لكنه قوبل بالرفض فعاد إلى روسيا حزيناً وهناك تزوج وأنجب أولاداً غير أن حب تلك المرأة لم يغادر قلبه أبداً وبعد سبعين عاماً يقرر السفر إلى فرنسا والبحث عنها كان ذلك في العام 2014 فذهب وتبين له أن حبيبته ماتت قبل أشهر من وصوله فعاد إلى روسيا حزيناً مرة أخرى ومات في كانون الأول 2014 عن عمر 95 عاماً. وقد تم إخراج الفيلم بدعم شعبي كبير أيضاً تم دعمه من شخصيات سياسية وشعبية منها وزير الخارجية الروسي شخصياً ويتم حالياً عرض الفيلم في صالات ثلاثين مدينة روسية.

كيف عاش والدا الرئيس بوتين الحرب؟
ولم يدع الرئيس فلاديمير بوتين المناسبة تمر دون أن يكتب لها شيئاً فكتب مقالاً لمجلة روسكي بيونييه (الرائد الروسي) عنوانه (الحياة مريرة بقدر ما هي بسيطة) يتحدث فيه عن مكابدة والديه أثناء الحرب فقد كان والده عاملاً في أحد مصانع لينينغراد وعندما اندلعت الحرب التحق بالجيش وخلال إحدى العمليات قتل جميع أفراد مجموعته لكنه استطاع الخروج حياً بعد أن قضى ساعات طويلة مختبئاً في مياه مستنقع وهو يتنفس عبر القصب إلى أن عبر الجنود الألمان بالقرب من المستنقع بعد ذلك تم نقله إلى نيفسكي بياتا تشوك وهو قطاع معارك محتدم بمحيط لينينغراد حيث صمدت القوات السوفييتية فيه لأشهر وسقط عشرات الآلاف من الضحايا وهناك جرح الوالد واستطاع جاره في المبنى سحبه إلى الطرف الآخر من النهر المتجمد ومن ثم إلى المشفى رغم كثافة الرصاص المنهمر وبعد أن أوصله إلى المشفى قال له جاره أنت ستعيش وأنا سأذهب لملاقاة الموت ويروي الرئيس بوتين أن والده كان يعطي حصته من طعام المشفى لوالدته التي كانت بدورها تأخذ الطعام إلى ابنها الوحيد وعندما علم الأطباء بذلك منعوها من الزيارة بعدها مات الولد أثناء حصار لينينغراد بمرض الدفتيريا ولم يعرف الوالدان أين دفن الصبي إلا بعد سنوات حين علموا أنه ووري الثرى في مقبرة بيسكاريو فسكوي المكان الذي دفن فيه آخر نصف مليون جندي ممن سقطوا في الدفاع عن المدينة مع المدنيين الذين ماتوا من الجوع أثناء الحصار، ويتابع الرئيس بوتين في مقاله كيف تم إنقاذ والدته بما يشبه المعجزة إذ لدى عودة والده من المشفى ودخوله مبنى سكنه وجد طواقم إسعاف تخرج جثثاً على النقالات فشاهد زوجته بين هذه الجثث وبدا له أنها تتنفس فطلب منهم أن يعيدوها إليه فأجابوا دون اكتراث بأنها لن تعيش وهنا هجم عليهم بعصا حملها معه من المشفى وأجبرهم على إعادتها إلى البيت ويختم الرئيس بوتين بالقول: وهكذا اعتنى أبي بأمي حتى تماثلت للشفاء وعاشت بعدها حتى عام 1999 وأبي مات قبلها بعام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن