ثقافة وفن

المجاهد زهدي السلطان.. رافع علم الاستقلال فوق الجزيرة السورية

| الحسكة - دحام السلطان

خاض أهلنا في الجزيرة السورية كباقي أرض الوطن ملاحم بطولية ضد الاستعمار الفرنسي منذ وطئت قدمه الأرض وحتى جلاء آخر مستعمر، من خلال ظهور شيوخ ووجهاء القبائل والعشائر والقادة الوطنيون الذين سطروا على صفحات التاريخ بطولاتهم ومواقف العز والكرامة التي خاضوها في سبيل استقلال الوطن بشكل عام والجزيرة السورية بوجه خاص، رافضين ومقارعين كل أشكال القرارات التقسيمية الانفصالية الخبيثة التي كان المستعمر يعرضها ويسوّق لها ويدعو إليها.

دخول الفرنسيين الجزيرة

عام 1945 قدم وفد الحكومة الوطنية إلى مدينة دير الزور وطلب المجاهد الوطني الملازم ثان الشيخ زهدي بك السلطان «1899- 1988» للحضور إلى دير الزور آنذاك، الذي يُعد واحداً من أهم المناضلين الوطنيين الأحرار الذين قارعوا الاحتلال الفرنسي على امتداد ساحة الجزيرة السورية منذ دخولهم إليها محتلين، للقاء وفد الحكومة الوطنية، فالسلطان واجه الفرنسيين عندما دخلوا الجزيرة السورية من الشرق عام1921 وحين تمّ إلقاء القبض على السلطان، ومن ثم اعتقاله وساقه الجنرالان «فيغان وديوت» مرفّقاً إلى مدينة حلب، وبوصوله إلى حلب وضعه الفرنسيون تحت أمر الواقع وأفهموه بأنهم لم يأتوا إلى سورية محتلين؟ بل دخلوها تحت مظلة الشرعية الأممية، تحت بند فرض الحماية والانتداب استناداً إلى المادة رقم 22 من ميثاق عصبة الأمم.

إعلان العصيان المدني

بعد أن استنكف السلطان عن الخدمة بالتوازي مع وجود الفرنسيين في الجزيرة أعلن العصيان العلني ضدهم، وتأسس على أثر ذلك الحزب الوطنيّ في الجزيرة كأول تيار فكري وسياسي يدعو إلى المقاومة وطلب الحريّة والاستقلال والذي عُرِف بداية باسم «جماعة القمصان الحديديّة» النواة الأولى للحزب الوطني، الذي دعا إلى تأسيسها النائب الوطني «محمد نوري الفتيّح» حين قدومه من دير الزور إلى الحسكة عام 1923.

امتداد تاريخي وطني

يعتبر المجاهد السلطان، امتداداً وطنياً لتاريخ والده الشيخ الثائر الشهيد نائب الجزيرة العليا حماد بك السلطان الملحم «1870- 1933»، الذي أعطى أنموذجاً أصيلاً لأبناء الجزيرة السوريّة، في جميع المواقع التي تقلّدها بين عامي 1898- 1919 بعد أن تخرّج في الكليّة العسكرية التي افتتحها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني لرؤساء القبائل والذوات في الآستانة بين عامي 1893- 1896، وهي الكليّة نفسها التي تخرّج فيها معظم الأحرار الوطنيين من أمثال: وزير الحربية الشهيد يوسف العظمة، وفي نهاية الحرب العالمية الأولى وبعد رحيل الأتراك عن البلاد، أصبح والده نائباً للجزيرة العليا في المجلس النيابي «نواة مجلس الشعب السوري» اليوم، حتى عام 1927 وهو أول نائب عن الجزيرة السورية في المجلس، وقدّم خلال عمله في تلك المواقع والمهام التي تقلدها صوراً مشرقة جسَّد فيها الانتماء الوطني والقومي، فهو الذي رفض المغريات التي قدّمها له أدميرال الأسطول البريطاني في أثناء فترة حكمه في قضاء القطيف؛ لتسهيل مهمّة احتلال الإنكليز لمنطقة الخليج العربي، وقيامه بفض النزاعات التي كانت تحصل بين القبائل العربيّة في نجد والحجاز، ومشاركته في الحملة العسكرية التي دعا إليها جميل بك المدفعي، للمشاركة بثورة رشيد عالي الكيلاني المعروفة «بثورة العشرين» ضد الاحتلال البريطاني في العراق، كما أسهم في تأليب القبائل والعشائر العربيّة والكرديّة ضد الاحتلال البريطاني في العراق، على الرغم من أنه قد تلقى يومها تهديداً مباشراً من حاكم الموصل السياسي الكولونيل البريطاني «تولدر» بالكتاب رقم 112 / 5 بتاريخ 1 تموز 1920، والذي ينذره مضمونه بالضرب بشدة بوساطة الطائرات والبطش به إن داوم على تحريض القبائل ضدهم، أما في فترة الاحتلال الفرنسي للجزيرة وموقف الشيخ السلطان منها، فبعد أن دخلت القوات الفرنسية إلى الجزيرة السوريّة في العام 1921 بقيادة ضابط الاستخبارات الفرنسية المستشار «تريه»، تسارع الحراك الثوري ضده على كامل رقعة المحافظة ليكون على رأس الوطنيين الشرفاء من أبناء المحافظة، وفي الوقت نفسه كانت السلطات الفرنسية تخشى الاصطدام معه علناً، وللتاريخ الوطني الذي عُرِف به في جميع الولايات العربيّة التي حكمها، ولاسيما في العراق والخليج العربي. وفي محاولة فصل الجزيرة والفرات عن سورية عام 1927 التي أرادت بها فرنسا ضرب وحدة البلاد بفصل الجزيرة والفرات عن الوطن الأم سورية، دعت إلى اجتماع رؤساء القبائل والعشائر في الجزيرة ونواب عن دير الزور وعن الجزيرة في مدينة دير الزور، وفي أثناء الاجتماع طرح مفوّض المندوب السامي الفرنسي هذه الفكرة فلاقت معارضة شديدة من نائب الجزيرة العليا الشيخ المجاهد حماد بك السلطان الذي حضره مع نواب عن دير الزور والرقة وعدد من شيوخ القبائل والعشائر، في مدينة دير الزور عام 1927، باعتباره النائب الأول والوحيد الممثل عن الجزيرة السورية في المجلس النيابي السوري، الذي دعا إليه مندوب المفوض السامي الفرنسي، حيث قام بتفشيل الاجتماع، وإجهاض آمال الفرنسيين، الحافل بالوطنية الذي دفع حياته ثمناً لوحدة جغرافية الجزيرة والفرات، وارتباطهما بالأرض السورية، وعندها فرضت سلطات الاحتلال الإقامة الجبرية عليه لمدة 22 يوماً، وحلَّت المجلس النيابي والمجلس التنفيذي اللذين كان عضواً فيهما، وأجرت انتخابات صورية جديدة، وقامت بإبعاده وأبعاد كل الوطنيين الشرفاء، وفي الوقت نفسه اتخذت قراراً بتصفيته، وخططت لذلك بذكاءِ غادر، وبعد فترة الإقامة الجبرية التي فُرِضت بحقه، لم تخمد جذوة النضال في صدره، بل زادته تصميماً على حرية الوطن، قبل أن يأتي العام 1933 حين تعرّض المجاهد حماد بك لوعكة صحية ألزمته الفراش، وهنا وجدت السلطات الفرنسية الفرصة سانحة للتخلص منه فقامت بإرسال طبيب الجيش الفرنسي للتخلّص منه، فقام الطبيب بحقنه بإبرة سامة قاتلة.

تحرير الجيش الوطني للجزيرة

حين حضور المجاهد زهدي بك إلى مدينة دير الزور قال له وفد الحكومة الوطنية بالحرف هذا يومك! ونطلب منك تأمين الحسكة وتطبيق النظام فيها لتحقيق الجلاء واستكمال إنجازه وتحقيقه في باقي مناطق البلاد.. عَلِمَ أهل الحسكة بقدوم قوة وطنية إليهم، وكان بدوره يتواصل مع وفد الحكومة بدير الزور ويُعلمهم بكل تحركاته، ولدى دخوله المدينة من الجهة الجنوبية كان هناك «ميليشيا فرنسية» مرابطة عند «جسر حي غويران الحالي» فلما رآه أفرادها على رأس القوة العسكرية، لاذوا بالفرار وتحصنوا مع بقية أفراد الجيش الفرنسي الموجودين بالحسكة، في مقر القشلة «الثكنة العسكرية القديمة المحاذية لموقع سوق الهال اليوم من الجهة الشرقية» فعندها دخل وقواته دار السرايا «مبنى المحافظة الحالي» وقام بإنزال العلم الفرنسي ورفع العلم السوري على ظهر دارها، وقام بإطلاق سراح جميع المعتقلين لدى سلطات الاحتلال الفرنسي فيها، وأبرق إلى وفد الحكومة الوطنية الموجود في دير الزور ليعلمهم بكل ما حصل معه، والذي لم يتوان عن الحضور إلى الحسكة للاحتفال مع أهلها بفرحة جلاء الاحتلال الفرنسي وسط مهرجان احتفالي كبير تم في ساحة مبنى المحافظة، وأثناء مراسم الاحتفال بالجلاء، دخل الحسكة اللواء الثامن للجيش البريطاني بكامل عتاده وبأسلحته ومصفحاته المدرّعة ودباباته، وخاطب قائد الجيش البريطاني أعضاء الحكومة قائلاً: لقد دخلنا سورية من أربعة محاور وأصبحنا المسؤولين عن الأمن في البلاد اليوم.. «وجاء ذلك بعد انتصار الحلفاء بقيادة بريطانيا على دول المحور في الحرب العالمية الثانية»، وطلب من أعضاء الحكومة تسمية مسؤول عسكري وأمني وقائد لحرس القبائل والعشائر من قبلهم بشكل فوري، لكي تكون علاقته مع «الميجر» البريطاني، فقال له أعضاء الحكومة لقد قمنا بتسمية الملازم ثان «زهدي بك السلطان» وانتدبناه لهذه المهمة، فعندها سُمّيّ قائداً عسكرياً عاماً للجزيرة السورية ومسؤولاً أمنياً فيها، وقام بتأسيس دائرة إدارة تنظيم شؤون العشائر، والتي كانت تتكون من سبعة عناصر وقام بتسليحهم من أسلحة الدرك السوري ثم قام بتطويع 65 فرداً من أبناء أهالي وقبائل وعشائر الحسكة، في الوقت الذي كان فيه هذا الرقم هو السقف العددي الأعلى المسموح به في التطويع آنذاك.

تحقق النصر بجلاء الفرنسيين

تعرّض مقر دار السرايا لطلق ناري جاء من المقر الفرنسي الذي كان قد حذّر منه زهدي! وطلب أثناءها من الميجر البريطاني إخلاءه، فقام بإبلاغ الإنجليز فوراً بهذا الخرق الاستفزازي المتعمّد، فقام الميجر البريطاني بإرسال لجنة مختصة من قبلهم لتحديد موقع الطلقة ومصدر اتجاهها، فتأكد الميجر البريطاني من قبل من أرسله بأن مصدر الطلقة هو الموقع الفرنسي ذاته المجاور لدار السرايا! وعلى أثر هذه الحادثة تم إخلاء الموقع من القوة الفرنسية، وفي الوقت ذاته لم يتوان السلطان من توجيه إنذار نهائي للفرنسيين الموجودين في الثكنة يتضمن منع التجوال والنزول لأي عسكري فرنسي إلى مركز مدينة الحسكة وكل مخالفة وخرق للتعليمات يستوجب المسؤولية ولا ضمان لحياة أي فرنسي يخالف التعليمات، كما قامت القوات البريطانية بتوجيه إنذار نهائي أيضاً للقوات الفرنسية دعت فيه إلى مغادرتهم أرض الجزيرة السورية، وبالفعل هذا ما حصل فقد خرج الفرنسيون عن بلادنا بحماية الإنكليز، وأثناء انسحابهم أرادوا تدمير الجسور وبعض المواقع الحيوية في المدينة، لكن السلطان فوّت عليهم هذه الفرصة، بعد أن تدارك الوضع مسبقاً وقام بتوزيع كامل قواته العسكرية من الجيش والدرك والمتطوعين الوطنيين ومن أبناء القبائل والعشائر في المنطقة ووضعهم في حماية المدينة وممتلكاتها، كما طلب من جميع أبناء المدينة الالتحاق بالقوة العسكرية الوطنية واتخاذ أعلى درجات الجاهزية في التأهب لحالة الطوارئ وحماية المدينة وممتلكاتها من المحتلين المندحرين الذين ولّوا عن أرض الوطن إلى غير رجعة فكان النصر وكان الجلاء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن