اقتصاد

الليبرالية الجديدة والفقر المدقع والحكومة السورية … «أي شخص يعتقد أن النيوليبرالية تؤدي إلى تنمية البلدان النامية أو  إعادة إعمار البلاد المنكوبة من دون تدخل فعال وقوي للدولة.. فهو إما ساذج أو اقتصادي»

| د. جوليان بدور

شكلت المقابلة التي أجرتها صحيفة «الوطن» مع وزير الاقتصاد السيد محمد سامر الخليل في 28/03/2024، فرصة ثمينة لي، لكوني أعيش خارج القطر، من أجل تكوين فكرة دقيقة وصحيحة عن طبيعة السياسة الاقتصادية المتبعة حالياً في سورية وأهدافها وخططها على المديين المتوسط والبعيد. بداية، وقبل الولوج بالموضوع، أودّ أن أوضح بأنني لست معارضاً للحكومة السورية وأؤمن إيماناً مطلقاً برئيس الجمهورية والجيش العربي السوري والشعب السوري. بالتالي، الهدف الأساسي من هذا المقال هو، كخبير وباحث اقتصادي مغترب، غادر الوطن منذ أكثر من أربعين عاماً، لكن لا الوطن ولا أهله لم يغادروا قلبه ومخيلته أبداً، إبداء الرأي، من باب المسؤولية والوطنية، بالسياسة الاقتصادية المتبعة حالياً في بلدنا.

الهدف الأول والأخير هو محاولة فهم وشرح فيما إذا كانت السياسة المتبعة حالياً من الحكومة السورية تشكل الوسيلة الأفضل والأكثر فعالية من أجل خدمة المصلحة العليا لبلدنا وشعبنا، عن سؤال لجريدة «الوطن» ما السبب وراء التضخم الكبير وانخفاض قيمة الليرة السورية في العام الأخير وبما يزيد على سنوات الحرب مجتمعة؟ أجاب السيد الوزير بأن انخفاض سعر الصرف خلال سنوات الحرب الـ١٣ يعود إلى جملة من العوامل منها ما هو متعلق بالآثار الكارثية الناجمة عن الأزمات المختلفة التي عصفت بالعالم خلال الأعوام السابقة، ومنها ما هو ناجم، أقتبس، «عن انتهاج سياسات غير مناسبة منذ عقود ما قبل الحرب وثبت ضررها بشكل أكبر في سنوات الحرب كسياسة التمويل بالعجز المعتمدة على اقتراض المالية العامة بشكل مستمر مع طرح نقدي في السوق شكل حالة ضغط على سعر الصرف كانت نتائجها الواضحة في استمرار انخفاض قيمة الليرة السورية».

ما لفت انتباهنا في تصريحات السيد الوزير هو بعض الغموض والتناقض الذي يشوبها، فمن جهة هو يشير بالمقابلة إلى أن سورية كانت مكتفية ذاتياً بالنسبة للعديد من المحاصيل الإستراتيجية كالقمح ومصدّرة للنفط خلال الحقبة الزمنية التي كانت الدولة تتبع فيها نهج التخطيط المركزي والسياسة التدخلية بالاقتصاد. لكن من جهة ثانية يقول السيد الوزير بأن السياسات الاقتصادية المتبعة في ذالك الوقت غير مناسبة وغير فعالة، وتركت أثراً سلبياً تراكمياً على الاقتصاد الوطني. والسؤال هو: لماذا يعزو السيد الوزير الوضع المعيشي والاقتصادي الكارثي الحاصل في سورية الآن إلى السياسات الاقتصادية التدخلية للدولة المتبعة قبل عام ٢٠٠٥ من دون أن يقول كلمة واحدة عما خلفته الليبرالية الجديدة، المقنعة تحت عنوان اقتصاد السوق الاجتماعي، من الكوارث الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن خصخصة الاقتصاد (بشكل سريع وشامل)، أي بيع مؤسسات الدولة والشركات العامة للقطاع الخاص وتحرير الأسعار ورؤوس الأموال من دون سقف، واتباع سياسة التقشف المالي وخفض الإنفاق الحكومي؟ وعن سؤال آخر لجريدة «الوطن» عن خطة الحكومة لرفع مستوى دخل المواطن وقوته الشرائية أجاب السيد الوزير، أقتبس، «أن التأجيل المستمر لمقاربة هذا الموضوع كان السمة الأساسية في التعامل مع الملف المذكور لعقود من الزمن، وهذا ما زاد من آثاره السلبية وتفاقمها. وحتى نكون صريحين فإن معالجة جزء مهم من مشكلات الواقع الاقتصادي تكون من بوابة معالجة ملف عجز الموازنة وتحسين كفاءة الإنفاق العام من خلال توجيه سياسة الدعم بشكل سليم وتدريجي، ما يخفف الأعباء التضخمية وذلك لحين إصلاح عجز الموازنة في المديين المتوسط والبعيد». جواب السيد الوزير يوحي بأن الحكومة الحالية تنوي الاستمرار بتطبيق السياسة الاقتصادية النيوليبرالية المتبعة منذ عام ٢٠٠٥، ما يعني بأن الأولوية بالنسبة للحكومة السورية هي العمل على تخفيض عجز الموازنة، وتحسين كفاءة الإنفاق العام وليس الاستثمار في رأس المال البشري والمادي الذي يعتبر الوسيلة الأمثل للخروج من الركود التضخمي، والدخول في عملية تنمية حقيقية تسهم في خلق فرص عمل للمواطنين وزيادة مداخيلهم ورفع مستوى معيشتهم من دون أي إعانة. أي إن الحكومة الحالية تواصل استخدام الآليات التي بدأها الدردري في عام ٢٠٠٧ عندما لجأ إلى إجراء رفع الدعم عن المازوت والمواد الأساسية الأخرى بحجة تخفيف العجز في الموازنة العامة. وعن سؤال ما الأهداف التي تسعى وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية لتحقيقها خلال عام ٢٠٢٤، أجاب السيد الوزير: «إن أهم أهداف وزارة الاقتصاد يتمثل في العمل على تعميق التنوع الاقتصادي وتحفيز القطاع الخاص على الاستثمار في الاقتصاد الوطني من خلال دعم أسعار الفائدة وتحسين واقع بيئة الأعمال… إلخ. أي إن الحكومة السورية مازالت مستمرة في تطبيق بنود إجماع واشنطن (١٩٨٩) على الرغم من إخفاق الليبرالية الجديدة في تحقيق أي تنمية اقتصادية حقيقية في أي دولة بالعالم، ورغم اعتراف سيادة الوزير بعزوف المستثمرين الأجانب عن الاستثمار في البنى التحتية والإنتاجية في سورية.

وأخيراً لم يتطرق الوزير إلى معلومتين مهمتين ومتناقضتين نشرتهما صحيفة «الوطن مؤخراً 29/02/2024»، الأولى تفيد بأن بورصة دمشق حققت أعلى نسبة مكاسب في الربع الأخير من عام ٢٠٢٣ وتصدرت البورصات العربية في حركة الصعود، والثانية تشير إلى أن جميع العاملين بالقطاع العام يعيشون تحت خط الفقر وبأن معاش أستاذ بالجامعة لا يكفي حتى لتغطية تكاليف تنقلاته)، جريدة «الوطن»، 10/03/2024، (هذه المعلومات، على خطورتها وتناقضها، على ماذا تدل؟ ألا تدل على أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في بلدنا أصبح جائراً وغير عقلاني وغير مقبول. ونحن نتساءل كيف بالإمكان تقبل فكرة أن بورصة دمشق تسجل أعلى نسبة نمو في الشرق الأوسط على حين الأغلبية العظمى من السوريين تعاني الفقر المدقع؟ لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه هو عما يعبّر هذا الأداء المميز لسوق الأوراق المالية في دمشق؟ هل يعكس تحسناً في المستوى المعيشي للناس وارتفاع معدلات النمو الاقتصادي في البلاد، أم إنه يعكس حجم المضاربات وتعاظمها على سعر الصرف وأسعار العقارات والمنتجات والأسهم المالية؟ من دون أدنى شك الجواب أصبح واضحاً عند جميع السوريين.

إن من أحد أهم الدروس التي يمكن استنتاجها من تطبيق سياسة الليبرالية الجديدة المقنّعة في بلدنا تحت اسم اقتصاد السوق الاجتماعي، وتم التأكد منه في جميع الدول التي اتبعت هذا النهج، هو أن الثروة لا تتحقق فقط بالعمل والجّد والابتكار، وإنما تتحقق أيضاً نتيجة الجشع والمضاربة وإعادة توزيع الدخل والأرباح بما يخدم مصالح قلة من الناس على حساب عامة الشعب.

هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي المزري والمقلق دفع الجامعات الاقتصادية الحكومية منذ مدة إلى إقامة سلسلة من الحوارات من أجل مناقشة الدور المنوط للدولة في الحياة العامة والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المطبقة. لكن الحدث الأهم الذي لفت انتباهنا أخيراً هو اللقاءات النوعية التي أجراها حديثاً السيد الرئيس مع العديد من النخب الفكرية والثقافية والاقتصادية والمجتمعية، وأملنا كبير بأن تثمر هذه المحادثات في وضع إستراتيجية اقتصادية واجتماعية جديدة تقوم على المزج بين مزايا اقتصاد السوق والتدخل القوي والفعال للدولة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وأن تأخذ بعين الاعتبار السمات والقيم والخصائص الوطنية لبلدنا وتتجنب في الوقت نفسه وصفة الليبرالية الجديدة المتبعة منذ عام ٢٠٠٥.

أخيراً نحن على ثقة ويقين بأن سورية ستنتصر في معركتها الاقتصادية ومعركة إعادة البناء كما انتصرت في معركتها العسكرية والدبلوماسية.

أكاديمي وباحث اقتصادي
في جامعة ريونيون الفرنسية

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن