غسان الألشي.. قريحة تسبق الموقف ونكتة حاضرة … أسكت الشيشكلي على مضض وانتقم لنفسه
| أنس تللو
لسانٌ سليط، وحجة نادرة… براعةٌ فائقة في صياغة أجوبة بليغة ظريفة تُفحِم الآخرين، وتنتقم لصاحبها من كل ساخر، وتقطع الطريق أمام كل متطاول…
غسان الألشي رجل ذو شأن عجيب؛ يستحق سلوكَه التأملُ العميق، تنتابك لتصرفاته دهشةٌ وتعتريك لوعة… يملك قريحة نادرة تجعله يقدم النكتة الفورية لكل موقف، بل فقد تفيض قريحته أحياناً بما يسبق الموقف ويغلف الجلسة بإطار من الظرافة بديع… حباه اللـه ظرفاً ومرحاً ونكتة ظاهرة، فأكسبه ذلك حضوراً متألقاً جعل مجالس الظرفاء تتخاطفه، وسهرات الأنس تترقب حضوره…
وما غرابة شخصيته وندرة سلوكه تكمنان في ظرافته النادرة المتميزة فحسب، بل إن مردَّ ذلك إلى أنه قد نحا بظرافته نحواً آخر.
إذ قد لا يخطر في بال المرء أنه وكما أن الظرافة سلاح لطيف يمكن أن يلطف الجو ويعطِّر النفوس ويضفي جو المرح، كذلك فإنها يمكن أن تكون سلاحاً فتاكاً يدفع على المشاحنة ويفضي إلى البغضاء.
كان غسان الألشي يعيش حياة مترفة غنية، فقد ورث عن أبيه أموالاً طائلة وأملاكاً عديدة، دفعته إلى العيش ببحبوحة واضحة، فقد كان يطيل السهر يومياً، ثم يتأخر في الاستيقاظ، شغله الشاغل هو ارتياد المقهى أو الدخول إلى مطعم فاخر، وكثيراً ما كان غسان يشبِّه الرجل المتزوج بذلك الذي كُسِرت يده، وتم ربطها بحبل إلى عنقه فإنه يستطيع تحريكها ؛ ولكن ضمن الحد الذي يسمح به هذا الحبل، أما الأعزب فإنه يتمتع بتحريك يده كيفما شاء وفي كل الاتجاهات، لذلك فقد آثر غسان الألشي (حسب رأيه) عدم الزواج ليبقى ينعم بطعم الحرية الدامغة التي أضفت على حياته سعادة غامرة… ولعل هذه السعادة الزائدة كانت سبباً في إذكاء نار الحسد ضده ؛ فكثرت حوله الكلمات الساخرة ما دفعه إلى استخدام ظرافته على نحو غريب غير مألوف؛ وهو أن يجعل منها سلاحاً فتاكاً للانتقام ينال به من خصمه بحدةٍ تجعلُ هذا الخصمَ يفكر كثيراً قبل الدخول في جولة أخرى من التهكم والسخرية… لذلك فإن الكثيرين من الناس كانوا يسعون إلى كسب ودَّ غسان خشية من أن تصيبهم من لسانه لاذعةٌ على شكل طرفةٍ تجعلُ الآخرين يسخرون منهم، أو جارحةٌ ظريفةٌ تنشر شيئاً من قصصهم المخفية أو تطيح بهم… كيف لا وغسان يملك لساناً يرفع الممدوح إلى أعلى عليين إذا شاء المادح، ويهبط بالمذموم إلى أسفل السافلين إذا تطاول المذموم… لساناً حارساً أميناً يدافع ويهاجم بشراسة بالغة قلما تشوبَها حنكةٌ أو تخالطَها دراية، لساناً أقرب إلى الجنون المتعقل جعل غسان يسير وسط الناس جليلاً مهاباً يخشاه الناظرون وتبتسم له دوماً الشخصيات السياسية المرموقة…
إذاً لم تكن ظرافة غسان تهدف فقط إلى الابتسام، فقد استخدمها غسان للانتقام.
في مجلس أديب الشيشكلي عام 1953
من المعلوم أن تعليقات الألشي في ميدان الساسة والسياسة لاذعة وجارحة ولكنها في الوقت نفسه ظريفة، وكان غسان من أصحاب العقيد أديب الشيشكلي في الخمسينيات الأولى من القرن الماضي، فكان العقيد يدعوه إلى مجلسه في نادي الضباط القديم على طريق الصالحية كل ليلة، فتدور بينهما مسامرات ومحاورات لم تكن تخلو من بعض الهمز واللمز، وذات ليلة بعد أن طالت جلسة السمر والمرح، تناول الشيشكلي والد غسان، جميل الألشي الذي كان رئيساً للوزراء أيام الانتداب الفرنسي بكلمة نابية… فانزعج من ذلك غسان وتوجه بالكلام للعقيد الشيشكلي قائلاً:
– لماذا تشتم والدي يا سيدي؟ إن أبي لا يُشتم وقد كان رئيساً لمجلس الوزراء ووزيراً في عدة وزارات، ولم يكن بائع قنابـيز.
كان والد الشيشكلي بائع قنابيز، ( والقنابيز هي نمط من أنماط اللباس القديم وهو القمباز، وقد كان والد الشيشكلي تاجراً في سوق الحميدية) فسكت الشيشكلي على مضض، وانسحب في نهاية السهرة من دون أن يعاتب غساناً على كلامه، ومن دون أن يظهر عليه غضب من تعريض غسان بوالده بائع القنابيز، لكنه أمر باعتقال غسان لمدة أربع وعشرين ساعة وإطلاق سراحه في اليوم التالي على باب النادي، وعندما وصل غسان إلى منزله في منطقة القيمرية تم اقتياده إلى السجن حسب التعليمات…
وفي اليوم التالي أمر الشيشكلي بإحضار غسان إلى نادي الضباط، وإخلاء سبيله عند مدخل النادي، وبسبب هذا الاعتقال المؤقت وصل الألشي متأخراً إلى موعد النادي، وكان العقيد الشيشكلي في انتظاره وقد عاتبه على تأخره قائلاً:
– لماذا تأخرت يا غسان؟ انشغل بالنا عليك.
فأجاب غسان:
– والله يا سيدي لقد فوجئت أمس بأمر جلل، اضطرني إلى أن أمضي طول النهار أتشاجر مع الناس ووزارة المعارف – التربية – لأنها تغش الجيل وتزور التاريخ، وذلك بأنها تقول للناس إن الخلفاء الراشدين أربعة فقط: أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، وأنا أقول لهم هذا غير صحيح، لأن الخلفاء الراشدين خمسة.
وهنا قال الشيشكلي مدهوشاً: ومن الخامس… يا غسان؟
فأجاب غسان بمنتهى الجد: والد سيادتك حسن الشيشكلي.
فابتسم الشيشكلي وضج الحاضرون بالضحك العميق.
السؤال عن المرحوم أبيه
بعد غياب طويل اجتمع غسان الألشي بأحد أصدقائه، وسلم عليه بحرارة وسأله عن والده وأحواله وصحته فأجابه بأن والده قد مات فأبدى صديق غسان حزناً شديداً، وأخذ يعدد صفات المرحوم الوطنية والحسنة، وطيبة قلبه، وقد بالغ في ذلك الحزن العميق ما دفع بالألشي إلى أن يقوم هو بالتخفيف من آلام صديقه ومواساته، ومرت أيام… ورأى غسان صديقه ثانية، فعاد الصديق يسأله: كيف الوالد إن شاء اللـه بخير فأجابه غسان: والله لساتو ميت.
في جلسة سهر
كان الألشي في جلسة سهر، يتجاذب مع ندمائه أطراف الحديث، فقال أحد الحضور إن غسان كان طياراً حربياً أثناء حرب فلسطين، فطلب الحاضرون من غسان أن يحدثهم عن حرب فلسطين وما جرى معه فيها، وعلى الرغم من أن غسان لم يكن طياراً قط لكنه أخذ يتحدث، وينسج قصصا من خياله الواسع، فقد صار يروي لهم قصته ومخاطراته، ويطنب في وصف الغارات التي كان يشنها على العدو، وبعد أن سرد لهم عدة حوادث، وجد ما وجد نفسه إلا وهو ينهيها بأن طائرته وقعت مرة وقضي عليه، فقال أحدهم متعجباً: يا أستاذ غسان كيف تقول (إنك مت وهلأ أنت عايش وقاعد معنا عم تحكي القصة)؟ فأجابه غسان: أنا عايش…؟ ليش هي عيشة؟.
كان غسان متلافاً مبذاراً لكل الأموال التي ورثها عن أبيه، ولعله قد صاغ من حياته طرفة بليغة ضمَّنها فلسفة خاصة جعلته يعيش سعيداً.