ثقافة وفن

جرائم الحرب الأثرية

| د. علي القيّم 

خلال السنوات الماضية من عمر الأزمة المريرة التي مرت على سورية، أعربت هيئات ومؤسسات وحكومات ومنظمات دولية كثيرة عن قلقها العميق والمؤسف لوضع الآثار، والمواقع والأوابد في سورية، وما تعرضت له من تدمير وسرقة ونهب.. لقد ارتفعت الأصوات، وعقدت ندوات ومؤتمرات، وقدمت وثائق وحقائق لا يرقى إليها الشك عن حال صعب ومرير لمواقع تعد من أغنى وأهم وأقدم مواطن الآثار في العالم القديم.. وكانت المطالبة باتخاذ سبل الحماية والصيانة لإرث حضاري وثقافي إنساني لا يقدر بقيمه، ولكن بكل أسف، ذهبت هذه الدعوات والنداءات في مهب الريح، ولا حياة لمن تنادي؟!!
لقد تعرض نحو 900 موقع أثري إلى أضرار بالغة، وقد توزعت هذه الأضرار على مواقع في محافظات حلب ودمشق والرقة ودرعا ودير الزور وحمص وحماة وإدلب والحسكة، وشملت هذه الأضرار عمليات النهب والتدمير والتهريب والنقل إلى الأسواق الخارجية عن طريق تركيا والأردن وحتى لبنان.. في إطار خطة مبرمجة قامت بها عصابات و«مافيات» متخصصة بسرقة الآثار وتهريبها وبيعها في مزادات، ولشخصيات عالمية معروفة بسمعتها القذرة في هذا المجال، واعتبر هذا الفعل المشين كارثة كبيرة وجسيمة بحق التراث الإنساني، من منطلق أن تراث سورية لا يتعلق بسورية وحدها، بل بتراث كل إنسان على وجه الأرض.
التنديد الدولي، والعالمي، على أهميته، لم ينفع، ولم يخفف من وقع المصيبة، ولا من الأعمال الهمجية، ولا من جرائم الحرب الأثرية، ولم تتم معاقبة مرتكبيها على أفعالهم، حيث لم ترد الدول على ما نددت به المديرة العامة لليونسكو «إيرينا بولوفا» التي وصفت ما حدث في سورية بـ«جريمة حرب وخسارة جسيمة للشعب السوري والإنسانية، ويجب معاقبة مرتكبيها على أفعالهم».. كما لم يرد أحد على دعوة الأمين العام للأمم المتحدة للتحرك سريعاً لإنهاء هذه الأعمال الإرهابية..
عالم آثار فرنسي كبير، طلب مني ألا أذكر اسمه، قال لي بالحرف: «الكثير من آثار سورية، ذهبت من غير رجعة، حيث إن عصابات الآثار قطعوا رؤوس التماثيل التي لم يتمكنوا من إخراجها كاملة، وقاموا بجمعها بعد تهريبها، وعرضها في المزادات العالمية».. وهناك من قام بتجريف مواقع أثرية كاملة بطريقة بدائية، بهدف الحصول على الذهب والفضة وقطع الآثار، وهم بذلك قاموا بتدمير وتخريب الموقع الأثري بكامله، كما حدث في عملية تجريف موقع القصر الملكي في مدينة ماري (تل الحريري) الواقعة على الفرات الأوسط قرب بلدة البوكمال.. هذا القصر، الذي كانت تعد بقاياه من أهم القصور في الشرق القديم، وتبلغ مساحته نحو 25.000 م2 ويضم أكثر من 300 غرفة، وفيه مدارس وقاعات لتعليم الموسيقا، ويعود تاريخه إلى الألف الثاني قبل الميلاد.. لقد جرفت بقاياه ومعالمه الأثرية، وأصبح نسياً منسياً، وضاعت معالمه، وأصبح كأنه لم يكن.
مسلسل سرقة ونهب وتخريب الآثار السورية في المناطق الواقعة تحت سيطرة العصابات المسلحة، ما زال مستمراً.. وما تزال هذه الجريمة النكراء، ترتكب بحق تراث وإرث الأجداد، ولا يكاد مزاد للتحف والقطع الأثرية في بريطانيا وفرنسا وأميركا يخلو من قطع أثرية مسروقة من الأرض السورية.. لقد نقلت الأخبار معلومات عن آثار هرّبت من مدن الكتلة الكلسية، في محافظة إدلب- وإبلا (تل مرديخ) ومسكنة وجرابلس، والجزيرة السورية، وحوض الفرات وتدمر وصالحية الفرات (دورا أوروبوس) وأفاميا وغيرها.. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حجم الكارثة التي تعرضت لها هذه المواقع النادرة الوجود في العالم، والتي كانت سورية تستعد لتسجيل بعضها في عداد الممتلكات الثقافية والتراثية لدى منظمة «اليونيسكو» لما فيها من خصوصية عالمية، ولما تحتوي من سمات أثرية وتراثية إنسانية عالمية، قل وجودها في أي مكان آخر من العالم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن