قضايا وآراء

ما حدث في جنيف

| مازن بلال 

بين «خطوات تنفيذية» و«تفاهم» و«اتفاق» تداخلت المصطلحات في جنيف؛ وربما ضاعت الأهداف النهائية لمباحثات وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا، فالنموذج الدولي لفض النزاعات مازال ضمن نقطة واحدة يصعب رؤيتها في ظل عدم وضوح ميزان القوى الدولي، وبنود نتائج الاجتماع في جنيف هي علاقة أميركية – روسية «ملتبسة» تبحث عن اختبار نهائي على الجغرافيا السورية، وعلى الرغم من أن هذه العلاقة تحمل أبعاداً معقدة يمكن إسقاطها على المعارك في سورية وفق خطين: الأول قدرة كل طرف على دعم سياسته بحلفاء إقليميين، والثاني قدرة موسكو وواشنطن على تشكيل إرادة قوية تتفوق على الطموح الإقليمي في الشرق الأوسط.
الاختبار الحالي هو «وقف للأعمال العدائية» حسب التعبير الروسي؛ لكنه متدرج وفق نسق يساعد على زيادة التعاون، والحد من انهيار هذا المشروع بشكل كلي، وبغض النظر عن التفاصيل «المتدرجة» لوقف المعارك، فإن ما يميز الاجتماع الذي حدث في جنيف كان ضمن ثلاث نقاط:
– الأولى أن موسكو كانت تراهن على قدوم وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وهذا الرهان جاء من طبيعة دبلوماسية الكرملين في الاستفادة من الوقت المتبقي للإدارة الأميركية وإدخالها في توافق الحد الأدنى.
يبقى أن عرض النتائج على مجلس الأمن شأن جوهري لتثبيت مرجعية البنود التي أنتجتها المباحثات، وضمن هذه السياسة تسعى روسيا لضمان حدود لطبيعة «اشتباكها السياسي» مع واشنطن ضمن سورية، فالإدارة القادمة ستناور ضمن هذه الحدود التي تبدو بعيدة نوعا ما عن الحل النهائي في سورية، لكنها تكرس جملة من الأمور التي يجب مراعاتها بين «شريكين» في حل الأزمة، وهو شأن جوهري بالنسبة لروسيا.
– الثانية مرتبطة بمستقبل العلاقات الإقليمية، حيث لم يتطرق الجانبان للدور التركي المباشر وللأدوار الفرعية وما يمكن أن تقوم به «الرياض» تجاه الاتفاق، فالشركاء الإقليميون مُبعدون بروتوكولياً، وهم في الوقت نفسه منخرطون في تشكيل العلاقة الجديدة في المنطقة وطريقة ربطها مع كل من واشنطن وموسكو.
هذا الإبعاد الذي تم في جنيف محاولة أولية لترتيب الأدوار التي ستؤثر بفاعلية داخل النظام الدولي القادم، فمن المفترض أن تخلق المباحثات «اصطفافاً» بشأنه يؤثر في تفعيل نتائج المباحثات، ومن جانب آخر تقوم بتصنيف القوى الإقليمية بشكل واضح ضمن شرقي المتوسط عموما، فالمطلوب على ما يبدو ليس توزيع حلفاء بين واشنطن وموسكو، بل معرفة قدرات الدول في المنطقة، وحتى في أوروبا، على التعامل مع محاولات روسيا والولايات المتحدة على بناء علاقة جديدة بينهما».
– النقطة الثالثة هي بلورة نموذج سوري لـ«فض النزاعات» يمكن تعميمه لاحقاً على العديد من الأزمات، وعلى الأخص بشأن دول المنطقة مثل العراق وحتى الصراع مع «إسرائيل».
بالنسبة لموسكو فإن انتظار وزير خارجيتها في جنيف لخمس ساعات لم يكن دليلا على ضغط أميركي، فهو جاء ضمن قدرة البلدين على البدء برسم ملامح علاقة مختلفة تعرف واشنطن أن روسيا تريدها بشدة، وتعرف أيضاً أن «اختبار جنيف» بتفاصيله سيحدد طرفاً أساسياً في المعادلة القادمة، ومناورتها في تأخير المباحثات كان «تلميحاً» دولياً على أنها قبلت تعديل الصورة الدولية لكنها عامل مرجح فيها، فهي ليست الأقوى لكنها تملك المبادرة في إشارة إلى الكرملين كي يرفع من تعاونه في قضايا دولية أخرى.
تبريد الجبهات السورية من جنيف ليس حلاً للأزمة السورية، فهو فقط ملامح قيد الاختبار لخلق بيئة سياسية جديدة، وربما يبقى على السوريين كقوى سياسية – اجتماعية منح «الروح» لما تم التوصل إليه في جنيف، وإعطاؤه رؤية تجعل من الحل السياسي ممكناً وقابلاً للحياة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن